شعرية السجن والشهادة في ديوان "رسائل إلى شهيد" لأمينة قطب
ديوان "رسائل إلى شهيد" للداعية الشاعرة أمينة قطب شاهدا صادقا على إسهام المرأة المسلمة في الأدب الإسلامي الحديث، بعد تقلدها هم الدعوة والجهاد جنبا إلى جنب مع شقيقها الرجل، في وئام وتعاون، لا صراع وتنافر، تواسي بالنفس والنفيس، وتداوي الجراح، وتنشر الذكرى وتبثها في أدب رقيق بكلمة بليغة ومشاعر جياشة.
ولم تكن شاعرية أمينة قطب ولا جهادها بالكلمة والموقف غريبين وهي التي نشأت في بيت علم وأدب ودعوة وجهاد...وتشربت من تدين والديها ورعايتهما، ونهلت من شقيقيها محمد وسيد الرائدين في سماء الصحوة الإسلامية فكرا وعلما وأدبا غزيرا، واكتملت شخصيتها وتجربتها في الحياة بعد زواجها من الداعية المسلم المجاهد كمال السنانيري، فسالت ينابيع الكلمة الصادقة المعبرة عن سمو همة المرأة المؤمنة المجاهدة المعرضة عن زخرف الحياة الدنيا، المتعلقة بالنعيم الخالد غير عابئة بالمصائب والشدائد...
لقد اختارت أمينة أن تخلد موقفها هذا في ديوان شعر، وتختزل موضوعه العام في مخاطبة زوجها الشهيد مخلدة ذكرى من باعوا أرواحهم لله، وقضوا شهداء في ساحة الجهاد، ولم يركنوا للظلم والظالمين...فجاء الديوان متمحورا حول الثمن الغالي المكلف: السجن والشهادة.
عنوان الديوان: رسائل إلى شهيد
أول ما يستوقفنا من الديوان عنوانه "رسائل إلى شهيد"، فقد جاء تركيبا مُختزَلا تشع عليه كلمة "شهيد" من نورها، إنه الرجل الذي فضل أن يرحل عن الدنيا في ساحة الجهاد مقبلا غير مدبر ملبيا نداء ربه موقنا بموعوده "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا"[1]، ويشير التنكير إلى كونه شهيدا واحدا من بين أفواج وأفواج من الشهداء، ذلك أن الأمة ولود لا ينقطع منها الخير...
ومن نور الشهيد تقتبس الشاعرة ـ وهي المرأة المكلومة التي تفقد من مقربيها عزيزين على الأقل أخاها وزوجها ـ لتصوغ من ذلك القبس رسائل، لكن كيف تراسل من انتقل إلى علم البرزخ؟ بل كيف لا تخاطب من هم "أحياء عند ربهم يرزقون"[2]؟...وهي كذلك رسائل بصيغة الجمع، أي هي عديدة منها ما عبر عنه اللسان والقلم، ومنها ما ظل طي الكتمان إذ عجز عنه التعبير...
معجم السجن والشهادة في عناوين القصائد:
يتضمن الديوان إهداء ومقدمة وستا وعشرين قصيدة شعرية لا تختلف عناوينها عن مضمون العنوان الرئيس، وهي تتراوح بين مفردات من العائلة الاشتقاقية للشهيد في عناوين أربع قصائد: القصيدة الأولى تأخذ الكلمات نفسها "رسالة إلى شهيد" ويدل استعمال المفرد على أنها أولى الرسائل، والقصائد الأخرى: بعد عام من استشهاده، أنشودة للشهداء، في حجة أخرى بعد استشهاده. أما السجن فيتجسد في عنوان القصيدة الحادية عشرة: 4 سبتمبر ذكرى ليلة الاعتقال، بينما تتردد في أغلب العناوين كلمات من حقل المعاناة المرتبطة السجن او الشهادة مثل: في دجى الحادثات، ذكريات مهمومة، بعد الرحيل، الباب المغلق، أمنيات الحزن...ولا تفت المعاناة من عضض الصبر والتحمل والاحتساب لله تعالى مع التوجه إليه بالعبادة...فتأتي عبارات عناوين أخرى معبرة مثل: في نعمة الله، مع ليلة القدر، حوار ما نفسي، في انتظار الوصول، خواطر في موعد الذكرى...
دلائل السجن والشهادة في قصائد الديوان:
1- أدوات التوكيد وإثبات أثر السجن والشهادة في نفسية الشاعرة:
ففي القصيدة الأولى تكرار نفي الفعل تعبيرا عن الفقد بعد الاستشهاد[3]:
ما عدتُ أنتظر الرجوع ولا مواعيد المساءْ
ما عدت أحفل بالقطار يعود موفور الرجاءْ
والفعل "عاد يعود" نفسه يدل على التكرار، بمعنى أن الشاعرة عهدت أن تقوم بانتظار رجوع فقيدها ومعه كل الآمال الجميلة...ولكنها اليوم تعترف باستحالة هذا الرجوع، لأنه اليوم غدا شهيدا، وهكذا انتفت كل مباهج اللقاء الذي ما فتئ يتكرر:
ما عدت أنتظر المجيء ولا الحديث ولا اللقاءْ
ما عدت أرقب وقْع خطْوِك مُقبِلا بعد انتهاءْ
ما عدت أهْرع حين تُقبِل باسِماً رغم العناءْ
ويأتي الإثبات بعد النفي ليقرر حالة الشاعرة بعد استحالة الرجوع، وانتفاء مباهج اللقاء:
وتركتني أمضي مع الأيّام في صمت الشَّقاءْ
ثم يأتي الاستفهام التقريري ليعبر عن ارتفاع معنوياتها وعمق إيمانها بمآل الشهيد:
أتراه ذاك الشّوق للجنات أو حب السّماءْ؟
أتراه ذاك الوعد لله وهل حان الوَفاءْ؟
فمضيتَ كالمُشتاق كالولهان حُبّا للنداءْ؟
ثم يكون التتويج بانتظار الوعد الحق على درب الشهيد باعتماد أداة الشرط، ولام التوكيد، وأداة الاستقبال:
إن كان ذاك فمرحبا بالموت مرحى بالدماءْ
فلسوف ألقاكم هناك وتختفِي دارُ الشّقاءْ
ولسوف ألقاكُم أجَلْ، وعدٌ يصدّقه الوفاءْ
2- الزمان والمكان وقصة السجن والشهادة:
في القصيدة الثالثة: "في دجى الحادثات"[4] تسترجع الشاعرة فصول قصة أخيها وزوجها مع السجن والشهادة مستحضرة عاملي الزمان والمكان مُذكّرة بفصل من فصول التاريخ الحديث، فقد كانت مصر موطن صحوة إسلامية تجابه شرور العملاء قبل أن يضع هؤلاء أيديهم بأيدي اليهود ويتحدوا معهم في مجابهة هذه الدعوة وتصفيتها بالسجن أو القتل...كان ذلك زمن ماض مظلم من حقب مصر الحديثة:
في دُجى الحادِثات قد نأى العالمانْ
لــــــم يعـد بيــــننا غير كُـــــنّا وكانْ
وازدد المكان والزمان ظلاما وإيلاما بعد استشهاد الأخ والزوج:
وأنا قدْ بقِيتُ في فراغِ الْمكانْ
في بُحور الشقاء وعناءِ الزمانْ
ولكن الإيمان واليقين في المولى دائما منبع للأمل وسعة الأفق:
هل تُراني أفُوز في لظَى الاِمتحانْ
باللقاء السعيد عند شطّ الأمانْ
برضاء الكريم ونعيم الجنانْ؟
رغم هذا اللّظى وهموم الزمانْ
إن هذا رجاء في رضا المستعان
3 ـ أثر السجن والشهادة في الصورة الشعرية:
في القصيدة الرابعة: "بعد الرحيل"[5] تشد خيال القارئ صورة بيت الشاعرة وقد أصابه ذهول من الفراغ الذي خلفه الشهيد، وأشياؤه التي تتساءل عن غياب صاحبها، قبل أن تظفر بالجواب الحتمي: إنه الموت، ولكنه موت في سبيل الله...
ولتحقيق هذا التشخيص تستدعي الشاعر الاستعارة والمجاز والتشبيه...لتنتقل من اللغة المباشرة إلى اللغة البيانية:
كيف حالُ الأشياء في بيتي الخا وي وماذا تحكين بعد الرحيلِ؟
أتراها من قسوة الخطب راحت تسأل الليل في ذُهُول كلِيلِ؟
فقد أسندت إلى الأشياء أفعالا هي من اختصاص الإنسان من باب الاستعارة المكنية، بغرض تصوير أثر الفقد على ساكن البيت، وينقطع الأثر بعد ارتقاء الشهيد:
فلتعيشي فوق الرُّفوف طويلا في ظلام الكُهوف رهْن الأصيل
لا يدٌ تنزع التّراب ولا تر وي ظِماء الأزهار قبل الذّبولِ
وتوظف الشاعرة التشبيه بالأداة أو بدونها مع استبعاد تام للوجه الجامع بين المشبه والمشبه به (أي مرسلا أو مؤكدا، مجملا) لترسم جمالية الذكرى مع الشهيد:
وتراءت لنا ظلال ذكــرى من حياة كانت كظل ظليل
كان فيها الدجى نسيما وأمنا ودعاء يمضي كرجع جميل
أم تراها تساءلت عن صباح باسم الثغر كالنسيم العليل
فالحياة في كنف الزوج والأخ كلها نعيم وهناء، تماما كما يوجد في الظل الوفير، ويُسمع من الصوت الجميل، ويُشم من النسيم العليل...وتزداد الصورة ثبوتا باختفاء الأداة ووجه الشبه ما يفيد أن المشبه هو المشبه به تقريبا ولا يفصل بينهما إلا خيط رفيع أرق من شعرة...
4- رمزية الليل والسجن والشهادة:
يكثر ذكر الليل والحديث عنه، وتوظيفه البلاغي والدلالي، واستدعاء ما يرتبط به في معظم قصائد الديوان، ويعد هذا المَلمَحُ انسجاما تاما مع الشعر العربي القديم والحديث، وتفاعلا كاملا مع آية من آيات الله الباهرة في القرآن المسطور والمنظور، فالمسطور آياتٌ كثيرة تتحدث عن قدرة الله عز وجل على الخلق، منها قوله تعالى: "وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب"[6]، ومن المنظور المحسوس يؤكد العِلم أن سواد الليل يغطّي معظم الكون، وكأنّه الأصل، وما الضوء إلا انعكاس طارئ طال زمنه أو قصر.
والليل بسواده أخفى للأسرار، وأنسب للتحرر منها أو التعلق بها، و منبع الراحة بعد عناء، أو هو زمن المتاعب والهموم على حسب تقلبات النفس الإنسانية، وهو أيضا زمن تحرر الروح من ثقل الجسد، سواء تلك التي تسبح في ملكوت الله هائمة، او تلك التي تكابد آلام الكوابيس المزعجة...فكيف لا يكون الليل غلافا لرسائل الشعراء؟ بل كيف لا يكون رسول آلامهم وآمالهم ومشاعرهم وأحاسيسهم؟...
ولقد زدات شاعرتنا من استدعاء الليل لمّا كانت تعاني آثار السجن، وازدادت توهجا بعد أن فقدت زوجها وزفته شهيدا محتسبة منزلته عند الله تعالى، كما تعكس ذلك القصيدة الخامسة: "ذكريات مهمومة"[7] حيث يأتي الليل باعثا فعليا للذكريات الجميلة أحيانا:
حين كان الليلُ يغفُو حولَنا في سكون هادئ حلوِ الحنينْ
حين كان الليل يُزجِي حُلما مُشرقا يهمِس وضّاح الجبينْ
يبعَث الآمال يُثري عيْشنا بِرُؤَى المُقبِل من حُلو السنينْ
لكن سرعان ما يثير الذكريات الحزينة ويؤجج المشاعر الأليمة:
حين عاثت في دُجَى الليل بنا عُصبةٌ للكُفر والغَدر اللَّعينْ
تُفزِع الليل بطرقٍ هادرٍ في هُجوم مثل أشباح المَنونْ
ويشتد الاسترجاع إلى أن يصل الذرة ويتوقف عند اللحظة الحاسمة عندما غادر الحبيب وغدا سجينا ثم ارتقى شهيدا:
لحظاتٌ أثقَــــلَ الليلُ بها وغدَت سوداءَ في سِفْر السّنينْ
عندما أُقصِيتَ عَجْلان الخُطا مُبعَدا عن ذلك القلبِ الحنونْ
وصدى الخُطْوات في سمعي غدا مُوجِعا مثل سِياط أو أنينْ
وانثنى الصّمتُ يُغشِّي مسكني بسحابٍ من وُجُومٍ وشجونْ
فالزمن في ديون أمينة قطب مُختزَل في الليل، وهو زمن حكاية الحق والباطل، فقد اختاره أهل الباطل أن يكون لحظة إجهاز على أهل الحق، لكن الله تعالى وهبه لهم ساعة مناجاة وصدق وثبات وسلمَ ارتقاء:
ساوموا الإيمان في عليَائِه فتسامى فوق آلام السجينْ
هكذا فزت ولم تبْغِ سوى جنةِ الخُلْد جزاء للأمينْ
وتزداد المناجاة عند الشاعرة المؤمنة المُصابة الصابرة المحتسبة في الزمن المبارك "مع ليلة القدر"[8]، وإن كان ذلك الزمن يؤجج ذكرى يوم الفراق:
ليلةَ القدْر خبّرينى بماذا سوف ألقاك كيْف أُخفي شُجُوني
كيف أُخفي الهموم والقلبُ باكٍ وغزيرُ الدّمع مِلء جُفونِي
وطُيُوف الذّكرى تُعيد اللّيالي في خيَالي وعالَمي المحزونِ
ليلةَ القدر أي ذكرى تراها تتراءى لخاطري وعُيوني
سوف ألقاك بالدّعاء لربي أن يكون الإيمانُ ملءُ يقينِي
أن يكونَ الصّبر الجميلُ لخطبي منحةَ الله في غَدِي تُنجِينِي
لقد جاء ديوان الشاعرة أمينة قطب معبرا بصدق عن حرارة التجربة التي عاشتها بلحمها ودمها وهي تفقد أعز أقاربها بالسجن ثم الشهادة، وهو ما جعل شعرها ناطقا بالمعاناة النفسية والجسدية دون أن يضعف أو يستكين للظلم والظالمين، أو ينطق بما يخالف الخضوع لقضاء الله وقدره، وظلت الشاعرة معلنة الاحتساب لله لعله يسلكها في سلك المتبتلين المحتسبين طمعا فيما أعده لعباده الذين أنعم عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين.
[1] آل عمران، 169
[2] آل عمران، 169
[3] ديوان رسائل إلى شهيد، أمينة قطب، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1417هـ/1996م، ص 11
[4] نفسه، ص 15
[5] نفسه، ص17
[6] الإسراء، 12
[7] الديوان، ص 19
[8] عنوان القصيدة التاسعة من الديوان، ص27
وسوم: العدد 951