في سوريا… بَشَرْ وحَجَر.. جُوع وتشرَّد!

عبد الكريم البليخ

هل كانت العلاقات مع الناس في فترة ركود بعض الشيء، وأجّج حركتها ونشاطها بزوغ فجر الثورة السورية، وظهورها للعلن وبصورتها الفعلية في الخامس عشر من شهر مارس عام 2011، وكانت لها يدٌ فاعلة في واقع التغيير، الذي ظهر على الحياة العامّة فيها، ما يعني تحويلها من حجر صلد وجدار صادم، إلى حَمِلْ وديع لم يَعُد يصعب الاقتراب منه بالنسبة لأبنائها للنيل من جلاديهم، أياً كانوا، وكانت تغييراً لصورة مزرية تلمّس معها المواطن الكثير من المآسي والفقر المدقع الذي جَثم سنوات على صدور الكثيرين، ممن لم يُسمح لهم دخلهم اليومي، في أعلى مراحله، من العيش بأبسط مقوّماته، ألا وهو العيش في بحبوحة، وهذا ما لم يكن متوافراً للكثير من أبناء سوريا، الذين تحمّلوا وعلى مضض، واقعا مزريا !؟

وفي المقابل نجد أن هناك نخبة من الناس ومن الأسر ظلّت تعيش في بحبوحة، تملك وتتاجر بالعقارات، تبيع تشتري وتسافر، وتلبس من أفخر اللباس، وتأكل وتشرب ما تيسّر لها من الطعام والشراب، وتتنعّم في توافر الخدمات، في الوقت الذي تعاني البقية من نزفْ غريب وشُحّ أغرب، ما زال إلى اليوم يزداد ضغطا عليهم.

كم أنت مظلوم أيها المواطن السوري! وكم تحمّلت من شظف العيش وألوانه؟ وكم قاسيت بحثاً عن المال لإطعام أطفالك؟ وأردت أن تنفر من كل شيء ليعيش غيرك ويتنعّم على حساب غربتك وجهدك ومعاناتك وألمك.

طبقة حاكمة خربت بلدا مثل سوريا، فكيف بنا نحن أبناءها أن نرحَم من أساء لها، وأعادها مئات السنين إلى الوراء

هذا الواقع لا يمكن أن يشعر به إلا ذلك الذي عانى، وتحمّل مآسي واقع مرير، وعانى من الجوع وتحمّل التشرّد والبرد القارس، وعانى الفاقة من أجل أن يعيش بكرامة، ولأجل تجاوز حياة مريرة لم يعرف فيها يوماً، على الرغم من كل معاناته المعيشية، أنّه سيلاقي كل هذه المخاوف والخسارات، ها هو اليوم يلازم بيته المهجور، وغيره تحولت داره إلى أنقاض، وغيره إلى ركام من الحجارة، وخامس من وضع يده تحت خده يتجرع جور المعاناة، وصورها اللعينة التي حوّلت الإنسان بين ليلة وضحاها من إنسان مسالم بسيط وطيّب في طبعه، إلى إنسان أكثر وحشية وضراوة! وقد يقول قائل: تكتب هذا الكلام وأنت لم يسبق أن رأيت بأمّ عينك شيئاً على أرض الواقع من كل ما ذكرت، ولو أنك كنت بيننا أثناء وقوع الحرب اللعينة، وأيام «داعش» واستصدارهم الأحكام الجائرة وتنفيذها لأتفه الأسباب، ناهيك من هدير طائرات النظام، وأصواتها اللعينة المخيفة، ورميها البراميل المتفجّرة، وإطلاقها صواريخ سكود، التي كان يدفع بها النظام لقتل الناس ويقذفهم بها، لقلت كلاماً آخر؟ لا شكّ في أنّي عشت أشهراً مع هذه الحال الكئيبة المرضية، ولم أكمل بقية الوقت مع واقع تحوّل بغمضة عين إلى صرخة بائسة، وعشنا أيامها الأولى وما تلاها، بعد أن دخلت ميليشيا «جبهة النصرة» وشلل الحرامية، والمجرمين الذين سرقوا الرَّقة، وغيرها من المدن السورية، وتركوها بعد ذلك لعناصر»داعش» المجرمة هي الأخرى وقواتها الأكثر توغلاً في الإجرام، والتي لم ترحم طفلاً ولا امرأةً، لا رجلا طاعنا في السن ولا شاباً مزهراً لم يذق بعد من طعم الحياة إلا القليل.

وفي هذا المقام ما لنا إلا أن نقول ليكن الله في عون الجميع، فمن ظلّ متشبثاً بأرضه، ولم يغادرها ولمن استطاع الفرار والرحيل بعيداً إلى بلاد قصية، احتضنت معاناته ويأسه وقنوطه، أملاً في العيش بأمان وحرية. هذه الصورة التي عشناها وعاشها معنا أبناء الرَّقة، وغيرهم من أبناء المحافظات الأخرى الذين أقاموا فيها ولجأوا إليها، فكانت مجرد لعنة حقيقية تحمّل عبئها أبناء هذا البلد الأشمّ، الذين لم يرضوا بالذل أو الإهانة. ما العمل ما دام أن ابن بلدهم، راعي العلم والعلماء، وباني سوريا الحديثة، مع ما بذره الأسد الأب الذي ولّد في نفوس أبناء سوريا الذلّ، وأوجعهم بإحداث الكثير من الأفرع الأمنية التي أهانت المواطن ورسّخت في ذهنه الشرّ وفنونه الذي لم يستطع وإلى اليوم، التخلّص منه، من خلال تفشّي هذه الظاهرة وتعدد مسؤوليها، وكل ما يهدف إليه هو تخويفهم وترهيبهم، وإجهاض قدراتهم والنيل منهم، والدعس على رؤوس الجميع وبلا استثناء، لتحقيق مآربه الشخصية، ولنشر قواته، وبدلاً من أن يتعاطف مع المواطن ويقدم له جزءاً يسيراً من حاجته ومتطلباته المعيشية، تراه يُغلق أمامه كل أبواب الأمل التي حلم بها يوماً. المواطن السوري طيّب ومقدام إلى حد كبير إذا تطلب منه ذلك، وشرس جداً في حال أن وقع في مظلمة ما. طموح مجتهد في عمله. يعرفُ كيف يتذوقه ويحافظ عليه، ويحاول قدر الإمكان أن يبتعد عن الوقوع في الخطأ ويتحاشاه. صبور مبدع في أي عمل يقوم فيه. لن أقول أكثر من ذلك، وعلى الرغم من كل هذا فإن ما توافر له يكاد لا يذكر مقارنة مع أبناء جلدته في كل الأقطار العربية… ولم ينل من خير الدنيا إلاّ جزءاً بسيطاً وبسيطاً جداً، وغيره ظلّ يعيش في بحبوحة من العيش. هذا هو نصيبه من الدنيا، ومن إدارة بغيضة حاكمة طاغية لم تقدم له إلا النزر اليسير من مقدّرات الدولة، وإن فكرت في أن تُقدّم فإنّه بالكاد يصله نصف ما تقرّره وتأمر فيه.. واستفاد من خيرات هذا البلد كل من تربطه علاقة ود برأس الهرم. وحدها القيادات العليا المستفيدة مما يفيض من مقدّرات البلد، ومع ذلك رضي المواطن بكل تلك العلل وتحملها، وبلع كل ما يمكن أن يضرّه بل ويقضي عليه وعلى أسرته. وحدها الأسرة الحاكمة الطاغية استمرت في استصدار المراسيم والقرارات والتعليمات والأوامر الإدارية، وما على المواطن السوري إلا أن ينفّذ وبدون أيّ اعتراض، أو يلجأ إلى تقديم شكوى أو حتى تذمّر، فهو ملزم بالتنفيذ تحت أي ظرف كان. تحمّل عبئاً كبيراً وما زال يتحمّل لأنه لا يريد أن يفرّط ببلد عاش فيه أيام عمره الى جانب أهله ورفاق دربه وأصدقائه ومعارفه، وحدها الحكومة السورية وقيادتها الخبيثة اغتالته ودمّرت بيته، وألزمته بالتخلّي عنه وتجريده من محتوياته وتعفيش ما قدّر لها، تحت راية وبذريعة شعار: «وحدة، حرية، اشتراكية». الشعار الذي لطالما سمعنا به حين كنا صغاراً، وها هو وإلى اليوم يردّده صغارنا ولم نفهم المقصود منه، وعلى الأرض هم من استفادوا من رفع هذا الشعار اللّعنة، الذي دمّر البلد، وقتل الشعب الذي ذلّ وهجّر.

عناوين كبيرة عرفناها، إلا أنها وللأسف، كان من نتيجتها تخريب بلد مثل سوريا، فكيف بنا نحن أبناءها أن نرحَم من أساء لها، وأعادها مئات السنين إلى الوراء لأجل الحفاظ على كرسي سيؤول للغير، طال الزمن أم قَصُر، هذه حقيقة قائمة لا يمكن أن ننكرها.

لقد أحالوا البلد إلى وسم سيئ، وأحرقوا كل ما هو جميل ومفرح فيه. أحالوه إلى زعاف قاتل، وأفرغوه من كل ما يمكن أن يصبّ لصالح ابن سوريا الذي مات ودثّر بلحافه جرّاء هذه الصور التي أنهت معه حال معاناة استمرت طويلاً وهم يدركون ذلك تماماً، ويريدون لهذه الحرب أن تستمر أطول فترة ممكنة لتعَمُر جيوبهم بالمال الذي لا يمكن أن ينفعهم، وهذه رؤيتهم.

وسوم: العدد 952