هنيئا لطغاة الشرق انهيار ديمقراطيات الغرب
الديمقراطيات الغربية في شكلها التقليدي الإنساني انتهت إلى طريق مسدود. لا يمكن لهذه النتيجة السيئة إلا أن تصنع سعادة طغاة الشرق.. من الصين وروسيا وصولا إلى جمهوريات الموز عبر العالم، وخصوصا في المنطقة العربية. يحمل الطريق المسدود الذي انتهت إليه الديمقراطيات الغربية أكثر من عنوان: الفساد السياسي والمالي بين النخب الحاكمة والمؤثرة في القرار. التوقف عن تكريس المبادئ الإنسانية التي قامت عليها المجتمعات الغربية. تراجع الإيمان بهذه المبادئ وأهميتها في الحياة الإنسانية وبضرورتها للعالم. الحرص على دعم الحقوق والحريات محليا وتشجيع عكسها بين دول وشعوب العالم الثالث. انتشار العنصرية ومشاعر رفض الآخر بشكل جعلها، شيئا فشيئا، تصبح مقبولة في المجتمعات الغربية. غلق مساحات العمل السياسي في مستويات اتخاذ القرار لتصبح بالتوارث وحكرا على فئات اجتماعية ميسورة ومحظوظة. انتشار الجرأة في الاعتداء على الحريات ومَن يمثلها، مثل الصحافيين والمحامين والناشطين الإنسانيين.
هناك مظاهر أخرى كثيرة لا تخطئها العين، تعود كلها إلى الأزمات العميقة، المادية والمعنوية، التي ضربت المجتمعات الغربية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، والتي تؤشر إلى نهاية حقبة وبداية أخرى.. تماما كما كان انهيار الاتحاد السوفييتي مؤشرا على نهاية شيء وبداية آخر. فرنسا القريبة منا ينخر الفساد مجتمعها السياسي. لا يكاد يمر أسبوع دون أن يقف مسؤول سياسي رفيع أمام المحاكم في قضايا فساد مرتبطة بأدائه وظيفته. من فرانسوا ميتران وقضايا الزنا والزواج السري، إلى نيكولا ساركوزي في قضايا تمويل محظور للانتخابات وتلاعب بالأموال، مرورا بجاك شيراك وقضايا الوظائف الوهمية في بلدية باريس عندما كان عمدتها، وكثير من الوزراء والبرلمانيين. آخر هؤلاء فرانسوا فيون، رئيس الحكومة السابق (2007 إلى 2012) والمرشح لانتخابات الرئاسة في 2017 (حلَّ ثالثا بـ20٪ من الأصوات). ساركوزي لم يكتف بالفساد والتحايل على القانون بل تصرف كزعيم عصابة وشجع على تشكيل شلّة من حوله أنفقت أموالا طائلة لإفشال القضايا المرفوعة ضده وللتشهير بالعدالة وتهديد القضاة والصحافيين. فيون أوجد لزوجته راتبا مجزيا في وظيفة وهمية كمستشارة برلمانية له منذ.. 1981 إلى منتصف العقد الماضي، وكافأ أولاده ماليا على مهمات حكومية وهمية.
في فرنسا أيضا ينمو التطرف السياسي والعرقي بسرعة مذهلة. يكفي أن الحديث عن الأجانب يطغى على ما دونه من نقاشات في الاستعدادات للانتخابات الرئاسية المقبلة. ويكفي أن شخصا (إيريك زمور) لم يشتهر بشيء غير عنصريته القميئة وتعصبه ضد النساء والأجانب ينوي الترشح للرئاسة، واسمه يطغى على النقاش السياسي والإعلامي في فرنسا على مدار الساعة وأكثر من أيّ مفكر وعالم وفنان خلَّد اسم فرنسا.
في بريطانيا، آخر ما هنالك تحقيقات إدارية، قريبا قد تصبح قضائية، تجري حول محاباة رئيس الحكومة بوريس جونسون لسيدة أعمال أمريكية عندما كان على رأس بلدية لندن الكبرى: صفقات مربحة من أموال الشعب مقابل علاقة جنسية شهوانية!
المجتمعات الشرقية لا تملك صحافة تفضح الفاسدين، ولا تملك قضاءً يحاكمهم ويدينهم، كما هو الحال في الغرب. وما لا يقوله حكام الشرق وهم يُسوِّقون لفسادهم وطغيانهم، أن في الغرب، وعكس بلدانهم، هناك القانون وقوته
في بريطانيا، مثل غيرها، تتسع يوميا مساحة انتشار اليمين المتطرف المعادي للأجانب. حدثَ نوع من التطبيع الاجتماعي لهذا النوع من المشاعر، فلم يعد ظهورها في وسائل الإعلام والنقاش العام، تصريحا أو تلميحا، يثير أيّ مشكلة.
في أمريكا الفساد ينخر المجتمع السياسي بالقانون وخارج القانون. الرئيس السابق دونالد ترامب أسَّس لثقافة التحايل على القوانين والقيم والأعراف بشكل يجعل من الصعب التخلص منها. وقبل ترامب سقط مشرّعون ومسؤولون كبار وحتى رؤساء (ريتشارد نيكسون في ووترغيت وبيل كلينتون في قضية مونيكا لوينسكي) في شرك الفساد. في أمريكا يبدو تسلل الفكر المتطرف أكثر خطورة، لأنه مرَّ إلى مرحلة إراقة الدماء. الشعارات التي ينادي بها أنصار ترامب في تجمعاتهم السياسية مخيفة بما تحمله من كراهية لكل من لا يشبههم، وتتطلب النظر إليها بجدية ومحاصرتها بقوة القانون قبل أن تصبح معضلة.
من عناوين الإخفاق الأخرى أن السياسيين في الغرب أصبحوا غالبا يولدون سياسيين، ولا يُصنعون في الميدان والجامعات والنقابات. إذا كنت محظوظا ووُلدتَ لعائلة تنتمي إلى نادي المُفضَّلين، فالطريق أمامك سالك تقريبا، مع بعض التوجيه والتحضير، لتصبح سياسيا بعد ان تتخرج من أفضل الجامعات التي هي أقرب إلى مختبرات لصناعة السياسيين. أما إذا وُلدت خارج نادي المحظوظين فمصيرك محسوم على الأغلب منذ اليوم الأول.
أضرار هذا الانحراف ليست محلية فقط، بل تمتد بعيدا بسبب العولمة وما فرضته من تداخل وثيق بين الأفراد والمجتمعات. أسوأ من ذلك، هناك نيّة وجهد لنشره بين الآخرين، والتشجيع عليه. الحكومات الغربية اليوم شريكة في فساد الحكومات الشرقية ومجتمعاتها بأكثر من طريقة.. من خلال حروبها في القارات الخمس وما تترك وراءها من دمار وتخلف وآفات.. ومن خلال صمتها على الطغاة واستمرارها في التعامل معهم وتزويدهم بالأسلحة والشرعية.. من خلال ترحيبها بالأموال التي يُهرِّبها الفاسدون من دول العالم الثالث إلى بنوك الغرب وبورصاته وأسواق عقارته.. إلخ.
هذا الانحراف الكبير الذي يعيشه الغرب يُسعد القادة في الدول الديكتاتورية والمتخلفة، ويزيدهم ثقة على المضي في فشلهم وغيّهم. لهذا ليس غريبا أن تسمع رئيس دولة أو حكومة ينهر القادة الغربيين بأنهم ليسوا مؤهلين لإعطاء الآخرين دروسا في الحكم أو الديمقراطية! وليس غريبا أيضا أن تسمع أحدهم يرد مثلا بـ«أنظر القوة التي عاملت بها فرنسا أصحاب السترات الصفراء» أو أن «الفساد موجود حتى في الدول الديمقراطية» عندما يُسأل عن فساد في بلاده.
يختلف فساد قادة الشرق عن فساد قادة الغرب في الشكل والتفاصيل، أما الجوهر فمتشابه. هناك فرق واحد لكنه حاسم، هو أن المجتمعات الشرقية لا تملك صحافة تفضح الفاسدين، ولا تملك قضاءً يحاكمهم ويدينهم، كما هو الحال في الغرب. وما لا يقوله حكام الشرق وهم يُسوِّقون لفسادهم وطغيانهم، أن في الغرب، وعكس بلدانهم، هناك القانون وقوته وسُموه فوق الجميع. وهناك قوة المجتمع المدني، وقدرٌ من حرية التعبير والصحافة لا تزال صامدة تقاوم المافيات وأخطبوطات السياسة والمال.
وسوم: العدد 956