بداية الدعوة إلى الإسلام
ذات يوم من أيام القرن السابع الميلادي، وقف رجل تجاوز الأربعين بقليل، يحذر قومه وينذرهم، على قمة جبل صغير أجرد، في قرية منعزلة، منقطعة عن الدول الغالبة المتحضّرة يومذاك، بعيدة عن الإحاطة بأخبار السياسة العالمية، فضلاً عن التأثير في مجتمعاتها ومجرى الأمور فيها، ولم يكن الرجل مجهولاً في قومه، بل كان يتمتع بسمعة ممتازة، وسيرة عاطرة، لذلك ما إنْ سمعه الناس يومذاك يهتف بالذي يهتف به، بما يدل على احتمالات الحظر الوشيك والغزو المعادي الذي اقتربت طلائع المغيرين فيه، حتى سارعوا خفافاً إليه، يستطلعون منه الحقيقة، وقد ساورتهم المخاوف والظنون.
وبالفعل وقف الرجل الكريم ذو السيرة العطرة، والسمعة الممتازة، والخُلق الشريف يحذر قومه وينذرهم، ويبصّرهم بخطر ضخم كبير، لكنَّ هذا الخطر لم يكن أنَّ ثمة خيلاً وراء الوادي توشك أن تحيط بهم، ولا أنَّ جيشاً كبيراً يكاد يقتحم ديارهم ويستأصل شأفتهم، كان الأمر أخطر من ذلك وأفتك، إنهم في ضلال كبير، وإنهم في الكفر غارقون، وإن الرجل الأمين الذي وقف يهتف بهم محذِّراً، قد أرسله رب العالمين ليخرج قومه من الظلمات إلى النور، وقد مضت على إرساله ثلاث سنوات، كان الرجل الأمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم خلالها يدعو سراً إلى الإسلام الذي بُعِث به، لكنه الآن قد أُمِرَ أن يصدع بالدعوة علانية، وها هو قد فعل، وها هي صيحته تتردد أصداؤها على جبل الصفا بمكة المكرمة.
ومنذ ذلك اليوم السعيد الذي كان في بداية العقد الثاني من القرن السابع الميلادي، لم تمُتْ تلك الصيحة الإسلامية التي بدأ عهدها العلني بموقف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ذلك، فقد طفقت تنمو حتى تكاملت تماماً بعد عشر سنوات من الزمان، ظل فيها أمر الإسلام في نماء، حتى تُوِّجَ بالدولة التي قامت في المدينة المنورة عقب الهجرة الشريفة، وكانت تلك الدولة النموذج الأول للدولة التي تقوم على الفكرة فحسب، وقد قام عليها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قائداً وحاكماً وإماماً، مدى عشرة أعوام، هي عمره الشريف بالمدينة المنورة، لحِق في نهايته بالرفيق الأعلى، بعد أن أتمّ الله عز وجل على المسلمين النعمة، وأكمل لهم الدين، ورضي لهم الإسلام ديناً، وبعد أن أدّى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الأمانة، وبلّغ الرسالة، ووضع الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
ودارت الأيام، وتعاقبت السنون والقرون، وحقق المسلمون انتصارات هائلة أحلى من العسل، وهُزِموا هزائم هائلة أمرَّ من الحنظل، لو هُزِمَ غيرهم بمثلها أو مثل بعضها لصاروا أثراً بعد عين، وخبراً يرويه السمّار للعظة والتسلية والذكرى. لكنّ الصيحة الإسلامية الزهراء، تلك التي بدأها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يومذاك، لم تزل تمارس دورها في الهداية والإسعاد والإنقاذ على الرغم من كل الظروف المختلفة التي كانت تحل بالمسلمين بين نصر وهزيمة، وامتداد وانحسار، ولا تزال حتى ساعتنا هذه، وحتى يرث الله الأرض ومَنْ عليها تؤدي دورها الجليل ذاك.
أما دور هذه الصيحة المسلمة فهو بيّنٌ جليٌّ، وأما معانيها ودلالاتها وأبعادها ومضامينها، فهي من الكثرة والغنى والتنوّع بحيث ظلّت البشرية -وستظل- تجد فيها في كل حين، خيراً عميماً، ونوراً ساطعاً، وهداية لا ساحل لبحرها الواسع العميق.
لقد كانت هذه الصيحة وما تزال، إهابةً بالفطرة أن تتحرك فتجعل الإنسان يعبد الله وحده، وتطالبه نفسه السامية ألا يقتنع بغير رضوان الله تعالى، ويدفعه طموح المؤمن إلى أن تكون الجنة غاية غاياته، ويقتضي شرفه وكرامته أن يجاهد في هذا السبيل، ويبذل ما عنده من مواهب ومكاسب، وعقل ومال، وذكاء وإمكانات، من أجل هدفه الكبير ذاك.
لقد كان من معاني هذه الصيحة -ولا يزال- أن على الإنسان أن يتحرر من كل أنواع العبوديات، ولن يتم له ذلك إلا بإخلاص العبودية لله عز وجل، ففيها وحدها النجاة من التعبد للضلال والهوى، والجبال والأنهار، والأشجار والأوثان، والأنصاب والأزلام، ماديةً كانت أم معنوية، ومن كل ما يطمعه فيخطف بصره، أو يرهبه فيخيفه، أو ينتقص من منزلته مخلوقاً أكرمه الله وزكّاه.
لقد كان من معاني تلك الصيحة -وما يزال- أن مَثَلَ أي إنسان كمثل أي إنسان آخر؛ ما كان ثمة التزام لمنهج الله تعالى في الأرض، طاعة لأمره، واجتناباً لنهيه، وفي هذا من الإكرام للإنسان ما يسمو به ويعلو، فيشعر بكرامته واستعلائه، فرأسه الشريف، وجبهته الشمّاء، وقد اعتادتا على السجود لرب العزة فحسب، ليس لهما أن يعرفا مهانة الانحناء بين يدي أي مخلوق، كائناً من كان، فوقوفهما تعبّداً بين يدي الخالق؛ نجّاهما من الوقوف المهين، والذل المخزي، والطمع والهلع، والملق والرياء، بين يدي المخلوق.
وما أروع ذلك!.. وما أحسنه وما أنفسه!.. من إكرامٍ لهذا المخلوق، لم يتحقق قط إلا في ظلال تلك الصيحة الإسلامية الزهراء على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
وسوم: العدد 958