تمظهرات الحُب وترشحاته في الأنا والآخر
مما يسوء المرء أن يأتي أحدهم ويزايد عليه بالولاء للوطن أو القائد او العشيرة أو الأب أو الأم أو الزوج أو الزوجة، وأي كائن حي أو وجود مادي أو معنوي له مكانة أو قدسية في حياة الإنسان، لأن الولاء ليس نظارة ذات مقاس واحد يضعها الناس على أعينهم فينظر الجميع بعين واحدة وإحساس واحد، فلكل مقاسه ينظر من خلال عدستها إلى الأشياء ويتلمسها على حقيقتها، فالوطني صفة تطلق على كل إنسان يحب بلده ويسعى لخيره وخير أهله، بيد أنَّ لكل وطني أسلوبه في ترجمة الوطنية في قوله وفعله وعموم سلوكه، فلا يمكن أخذ الجميع بحسبة واحدة، ولا التقليل من شأن الآخرين، فكل يعمل على شاكلته، فإذا حاق الخطر بالبلد كان حامل سلاح وطنياً، وصاحب الكلمة النثرية أو الشعرية الذي يصدح بالحق ويدفع بالناس إلى مواجهة الخطر المحدق وطنياً، وطارق الباب يتفقد أحوال الناس ويمدهم بالمؤونة وطنياً، وصاحب المائدة والسفرة التي تمد المقاتلين بالغذاء وطنياً، والتاجر وهو يراعي خلقه في الأسعار وطنياً، والراعي وهو يراعي في الله رعيته وطنياً، فكل في دائرة عمله وحلقة سعيه وطنياً.
وكذا العابد هي صفة تطلق على القريب من الله كما تراه أعيننا لا ما يراه قلب العابد نفسه، فلكل واحد طريقته في التقرب إلى المعبود الذي وهبنا الحياة، فمنهم من يقضي الساعات في محراب العبادة قائما راكعاً ساجداً منقطعاً عن الناس، ومنهم من يتقرب إلى الله بمساعدة والديه العاجزين أحدهما أو كلاهما، أو الكد على عياله وتأمين لقمة العيش مع أداء الفرائض دون النوافل المستحبة أو بقدر من النوافل المستحبة، وبعضهم يصرف الساعات في مساعدة الفقراء وقضاء حوائج الناس دون أن ينسى ربه، فكل في محرابه عابد لله وقريب منه.
وكذا الصحابي الذي كان قريباً من رسول الرحمة (ص)، فكل من رأى النبي محمد (ص) وعمل بسنته وهديه هو صحابي جليل، ولكن الصحابة يختلفون فيما يحملون من أسرار الرسالة المحمدية وفي ترجمة الصحبة والولاء إن كان في حياة النبي (ص) أو بعد رحيله، ولا يمكن وضع الجميع في قالب واحد، فعلى سبيل المثال آخى النبي (ص) بين سلمان المحمدي وبين أبي ذر الغفاري، ولكن ورد في الأثر عن نبي الرحمة (ص) قوله: (والله لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله)، فكلاهما صحابيان جليلان ماتا على الولاء لمحمد (ص) وأهل بيته عليهم السلام، فسلمان فارسي وأبو ذر عربي، ولكن الله ورسول والراسخين في العلم يعلمون مراد الحديث ومكنونه وقدر كل صحابي، وبتعبير العلامة محمد باقر المجلسي المتوفى سنة 1110هـ في بيان مغزى الحديث: (ما في قلب سلمان، أي من مراتب معرفة الله ومعرفة النبي والأئمة صلوات الله عليهم، فلو كان أظهر سلمان له شيئا من ذلك لكان لا يحتمله، ويحمله على الكذب، وينسبه إلى الإرتداد أو العلوم الغريبة والآثار العجيبة التي لو أظهرها له لحملها على السحر فقتله، أو كان يفشيه ويظهره للناس فيصير سببا لقتل سلمان على الوجهين، وقيل: الضمير المرفوع راجع إلى العلم، والمنصوب إلى أبي ذر أي لقتل وأهلك ذلك العلم أبا ذر، أي كان لا يحتمله عقله فيكفر بذلك، أو لا يطيق ستره و صيانته فيظهره للناس فيقتلونه) بحار الأنوار: 22/344.
وفي إطار الحديث عن الولاء وبيان أحكامه صدر عن بيت العلم للنابهين في بيروت كتيب "شريعة الولاء" للمحقق الفقيه الشيخ محمد صادق الكرباسي، في 56 صفحة، لم يخل كما في سابقاته من سلسلة "الشريعة" في ألف كراس وعنوان من مقدمة للناشر ومثلها للمعلق آية الله الشيخ حسن رضا الغديري وتمهيد للمحرر مع 79 مسألة شرعية و80 تعليقة.
الولاء والضد النوعي
كما يصعب فهم مسار الولاء من إنسان لآخر، يصعب في بعض الأحيان فهم النصوص الولائية، بل ربما كان قصر النظر إلى متن الحديث وعدم استيعابه سبباً في رد المتن أو عدم التعاطي بإيجابية مع المتن ومصداق النص، ويحضرني من المحفوظات قصة حصلت في بغداد مع إمام الحنابلة أحمد بن حنبل عندما استصعب البعض إدراك معنى قول الإمام علي (ع): "أنا قسيم النار"، فجاؤوا إلى الإمام أحمد بن حنبل بوصفه من أئمة الحديث وكبارهم يستنجدونه لرد أولئك الذين يقولون بهذا الحديث وإفحاهم وإرجاعهم عن ما يعتقدونه غلواً، فتعجب الإمام إبن حنبل من هبّتهم وتجمهرهم عليه يطلبون النصرة، فقال لهم مستنكراً: (وما تنكرون من ذا؟ أليس روينا أن النبي (ص) قال لعلي: "لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق؟ قلنا: بلى. قال: فأين المؤمن؟ قلنا: في الجنة. قال: وأين المنافق؟ قلنا: في النار. قال: فعلي قسيم النار) طبقات الحنابلة: 1/320.
معادلة ولائية حلّها لهم الإمام إبن حنبل بطريقة منطقية، فليس لأحد أن يزايد الآخر على الولاء أو أن ينكر على الآخر ولاءه، ما دام الولاء كما يؤكد الفقيه الكرباسي في التمهيد: (هو الحب والود حسب التفسير اللغوي، وفي الفقه والشريعة هو التمسك بالود والحب الذي يخيِّم على القلب والفكر المؤثر على الممارسات، و بعبارة أخرى هو الهيمنة الروحية من قبل القادة على الأتباع والمحبة بين الأتباع)، من هنا جاء هذا الكتيب لبيان شريعة الولاء وأحكامه والعلاقة بين الأمة وقادتها، وبتعبير الفقيه الغديري في تعليقه على الكتيب وما جاء فيه: (هي وثيقة فقهية تحتوي الأحكام الشرعية للولاء بمعناه العام الجامع الشامل لولاء الله ورسوله وآله، ولولاء المؤمنين بعضهم مع بعض، ولمدى ولاء المؤمنين مع غيرهم وكيفية التعامل مع الموالين فيما بينهم، ومع غير الموالين والمعادين).
وبمقتضى الثنائية التي تقوم عليها حياة البشرية، كما هي ثنائية الخير والشر، والحسن والقبح، فإن الولاء يقابله البراء، فليس من المعقول أن يحب الإنسان حبيبه وعدو حبيبه في آن واحد، لأن القلب هو موضع الشعور والإحساس والتعقل، وهذا الكائن الصنوبري ليس في صدر الإنسان من نظير ثان له، إذ: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) سورة الأحزاب: 4، وحتى السماء: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) سورة الأنبياء: 22، فالرب واحد والقلب واحد، وهذا الفؤاد به نعقل ولابد أن نعقل حتى لا يشملنا قوله تعالى: (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا) سورة الأعراف: 179، ونكون ممن يفقه تساؤل القرآن الكريم ويعقل: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) سورة الحج: 46.
ومن العقل والعقلانية أن نحب في الله ونبغض في الله، وأن نوالي في الله أحباءه ونتبرأ ممن تبرأوا منه، فالبراء هو الضد النوعي للولاء، وهو أوثق عُرى الإيمان وعليه تقوم المدنية والدولة والحضارة، وبعكسه تنهار قيم الحياة، وذات يوم والصحابة حول الرسول (ص) سألهم مختبراً: (أَيُّ عُرَى الْإِيمَانِ أَوْثَقُ؟ فَقَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ الصَّلَاةُ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ الزَّكَاةُ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ الصَّوْمُ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ الْجِهَادُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ص): لِكُلِّ مَا قُلْتُمْ فَضْلٌ وَلَيْسَ بِهِ وَلَكِنْ أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ، وَتَوَالِي أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَالتَّبَرِّي مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) المحاسن للبرقي: 1/264.
تمظهرات الولاء والبراء
كما للحب تمظهراته، كذلك للولاء تمظهراته في الواقع الخارجي، والولاء قمة الحب كما البراء قمة الحب، فالولاء هو دين المرء كما البراء: (وهل الدين إلا الحب) كما يقول حفيد النبي الاكرم محمد (ص) الإمام محمد بن جعفر الباقر (ع).
ومن الولاء حب الإنسان لأخيه الإنسان في الله ولله، وفي الحديث عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع): (كل من لم يحب على الدين، ولم يبغض على الدين، فلا دين له)، وعنه عليه السلام أيضا: (ما التقى مؤمنان قط إلا كان أفضلهما أشدهما حبًّا لأخيه)، وكما يفيدنا الفقيه الكرباسي: (من صور الولاء أن يتصادق المؤمنون فيما بينهم وأن يتوادوا فيما بينهم، وأن يتزاوروا وأن يعين أحدهم الآخر في القول والفعل في الحق دون الباطل)، ولا يعني هذا مقاطعة الآخر وعدم التعاطي معه، إذ: (لا يعني إحسان المؤمنين فيما بينهم الذي هو مظهر من مظاهر الولاء عدم الإحسان للكافر كإنسان لا على حساب كفره).
ومن الولاء تقوية أواصر المجتمع، ومنها يفيدنا المحرر: (إذا كان التجمع يوجب مزيد التعاون والود والمحبة والولاء ينبغي الحضور والمشاركة)، وعليه كما يزيدنا: (يجب إظهار كل ما يوجب المودة للمسلمين) ولهذا كان: (عمل الخير الموجب للمحبة والولاء لأولياء الله واجب على القادر)، ومن الولاء المجتمعي: (يجب الدفاع بحق عن الأخوة الإسلامية كفرد ومجتمع في إطار الولاء والتضامن)، وأهم دواعي الدفاع كما يفيدنا المعلق: (لئلا يتجرأ العدو بالهجوم على المقدسات الإسلامية فرداً ومجتمعاً).
ومن الولاء: (الإنتماء إلى الوطن فهو من الإيمان)، والكرباسي إنما يريد هنا أن يرفع عندنا منسوب الولاء للوطن الإسلامي ودار الإسلام عملاً بالأثر النبوي الشريف: (حب الوطن من الإيمان).
ومن الولاء العمل السياسي البنّاء لصالح الوطن وشعبه، إذْ: (من وجوه التولي الدخول في تجمّع الموالاة في العمل السياسي إن كان مرضياً لدى الله جلَّ وعلا، ويقابله التبرِّي بالدخول في المعارضة لدى مقارعة حكم الظلم وما كان فيه ما يخالف الإسلام العقيدة، فلعبة الموالاة والمعارضة هي في الواقع التولي والتبرِّي).
ومن الولاء إظهار الفرح للمحب في أفراحه والحزن في أتراحه، وتخليد المناسبات العزيزة على الوطن وأهله، وعليه كان: (من مظاهر الولاء إحياء مناسبات مواليد المعصومين (ع) ووفياتهم، والأعياد والمناسبات الإسلامية الأخرى كالمبعث النبوي الشريف)، ولهذا كان إتخاذ الحكومات: (العُطل في المناسبات نوع من أنواع الولاء).
ومن الولاء استخدام الشارات والعلامات، لأنه: (للولاء شارات، كما لو شاع استخدام الهلال عند المسلمين، فإن كان الإظهار متوقفاً عليها، وجبت)، بل: (وقد تجب تأسيساً للمظاهر الدينية وتعظيماً للشعائر الإلهية) كما يضيف المعلق، من هنا كما يفيدنا المحرر: (حمل شارات الحزن في الأتراح أو شارات الفرح في الأفراح يُعد من الولاء)، وهذا أمر تسالمت عليه الأمم، فالدولة إذا مات زعيمها وقطب رحى الولاء عندها نكَّست فوق دوائرها الرسمية الأعلام ولبست رداء الحزن والرثاء، وفريق كرة القدم وأمثاله من الفرق الرياضية المتنوعة إذا ما مات عندهم لاعب أو مدرب أو مشهور، أو مات الملك أو الأمير أو الرئيس أو الزعيم، أو وقعت حادثة مأساوية على مستوى الفريق أو الوطن، أظهروا الحزن بوضع شارة سوداء على العضد، وإذا مات لأحدنا عزيز لبسنا السواد إيذاناً بالحزن والمواساة كتعبير عن الولاء للفقيد، وأمثال ذلك.
ومن الولاء حب الزوج لزوجته والزوجة لزوجها، وينتقل الولاء الصادق من مجرد حب إلى عبادة يؤجر عليه المرء ويُثاب، وهنا يفيدنا الفقيه الكرباسي: (إذا أحبَّ أو أظهر ودَّه لزوجته أو بالعكس قربة إلى الله تعالى أصبح عبادة، وإذا كان من باب الولاء الذي دعا إليه الإسلام فهو عبادة، وهكذا سائر الحب والولاء).
ومن نافلة القول أنَّ الأجر إذا كان على قدر المشقَّة، فإن الولاء على قدر القرب من أولياء الله والحب في الله والبغض في الله في كل شاردة وواردة، وليس لأحد أن ينتقص من ولاء الآخر، لأن الطريق إلى عسل الولاء المصفى بعدد أنفاس البشر ومشاربهم.
وسوم: العدد 978