شيرين أبو عاقلة: فلا نامت أعين الجبناء!
كبرنا وكبرت شيرين أبو عاقلة، كبرت أمامنا كمشاهدين، فلم نشعر بكل هذه السنوات، التي مرت منذ ظهورها لأول مرة على شاشة الجزيرة، ولم تعد هيئتها في بداية عملها، صغيرة وحديثة التخرج من الجامعة، عالقة في أذهاننا، إلا عندما شاهدنا لقطات من تقديم وليد العمري في أول ظهور لها على الشاشة. وليد أيضاً كبر أمام المشاهدين حتى أصبحنا لا نتذكر صورته شاباً، وكأنه ظهر في الحالة التي يظهر بها الآن، ولا بأس فقد ذكرت دراسة غربية لجبر الخواطر، إن سن الشباب يمتد إلى ما بعد الستين!
رصاصة قناص إسرائيلي أنهت حياة شيرين أبو عاقلة، هذا هو الخبر الفاجعة، الذي تلقيته من صديق، فشعرت لحظتها أنه يحدثني عن أحد قريب، ولم يحدث أن تحدثت مع شيرين من قبل، أو التقيت بها وجهاً لوجه، بل ولا أعرف شيئاً عن تفاصيل حياتها، لكن هذه هي الجزيرة، التي نجحت في صناعة هذه الحالة بين المشاهد وبين شاشتها ومن يطل عبرها، سواء كان مذيعاً أو مراسلاً، وتشكلت بين الجيل المؤسس، ومن في حكمه، وبين المشاهدين، «عشرة عمر»، كبروا وكبرنا معهم.
لا نتخيل الجزيرة، بدون خديجة بن قنة، وفيصل القاسم، وفيروز زياني، ومحمد كريشان، وجمال ريان، وأينما أولي وجهي يكون السؤال أين أحمد منصور؟ لقد صاروا علامة تجارية، إذا اختفوا فلن تكون هذه هي الجزيرة، ولو حافظت على نفس المحتوى!
أخبرني صديق إنه شاهد خبر استشهاد شيرين أبو عاقلة لأول مرة على شاشة «الجزيرة مباشر»، فلما ذهب إلى الجزيرة الأم، لم يجد الخبر، فتمنى أن يكون ما نشرته «مباشر» ليس صحيحاً، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، لقد ماتت شيرين أبو عاقلة فعلاً.
مؤخراً غيرت من عادة قديمة لي، وهي أن أنام والجزيرة أمامي صورة بلا صوت، فخبر الحرب الروسية الأوكرانية صار مملاً، ولم أعد قادراً على الاستمرار في متابعته ولو صورة أو خبراً على الشاشة، ثم إن الخبر الوحيد الذي أنتظره، لو جاء بصيغة العاجل، فلن أنتبه له، لأن المساحة المخصصة له جرى ابتذالها في معظم القنوات، ولو فتحت عيناي على عاجل، ولو بهذا الخبر المنتظر، وتم النشر على الشاشة «عاجل: وفاة الرئيس المصري..» فلن أكلف خاطري بقراءة العاجل، والعواجل صارت لا تعني في الأغلب الأعم التنبيه لوجود خبر مهم، ثم إنني عندما أسترد عافيتي كمتصوف سابق، يستقر في وجداني، أن نهايته لن تكون بهذه السرعة!
فضلاً عن أن هذا الخبر المرتقب، سيصلني بالاتصال التليفوني ممن لم يفقدوا شهيتهم للانتباه لكل خبر على الشاشة مسبوقاً بكلمة «عاجل»!
كان علي أن ألملم ذاتي المبعثرة من هول صدمة خبر اغتيال شيرين أبو عاقلة، قبل أن أفتح التلفزيون، وعندما حضر محمد كريشان، أدركت أنه اختيار مهم، فمثل هذه الأحداث الكبرى تحتاج لمذيع بثقله، يسيطر على الشاشة ويضبط الإيقاع!
ساعات مرت دون أن أستطيع لملمة ما تبعثر من ذهني، وغبطت في هذه الحالة، هذا الأداء المتمكن لوليد العمري، مع هذا الفقد، ومع هول الجريمة، وفداحة المصاب، وبينه وبين الفقيدة «عشرة عمر» واقعاً، وليس افتراضاً يربط مشاهداً بمراسلة، تذكرت حينئذ درساً كان أساتذتنا في مهنة الصحافة لا يملون من ذكره، لأن ضرورات المهنة تحتم أن يفصل المرء بين ذاته ومشاعره، فالوقت مهم جداً للصحافي إن لم يقطعه قطعه!
لقد ماتت والدة مصطفى أمين مؤسس «أخبار اليوم»، فذهب للمؤسسة بعد جنازتها، يعمل بهمة ونشاط، كما هي عادته كل يوم، وكأنه لم يجد جديداً في هذا اليوم. فالوقت لا يرحم، وللطباعة وقت محدد، وطرح العدد في الأسواق لا بد أن يتم في موعده، وبعد أن انتهى من عدد الغد، من صحيفة «الأخبار» أغلق باب مكتبه على نفسه وانخرط في البكاء! ومن هنا جاءت عبارة «مهنة بلا قلب» في وصف مهنة الصحافة!
الموت يختار شيرين
الموت يصطفي ويختار، وهي مقولة توارثتها الأجيال، وقد وجدتها واقعاً في حالة شيرين أبو عاقلة، فالقناص الإسرائيلي صوب بندقيته اليها، ليغتال هدفاً مهماً؛ صحافية مهنية من طراز رفيع، ثم إنها امرأة، وفضلاً عن هذا فإنها مسيحية، لتتجسد فيها قضية القدس أجمل ما يكون التجسيد!
تذكرت واقعة الطفلة عهد التميمي، عندما حرص الجناة على تقديمها كنموذج دال على إنسانيتهم، إنها تقف بقوة في مواجهة جنود يرفضون الإساءة اليها، وعندما تسجن، تخرج من هناك لتتكلم عن المعاملة الجيدة، وكانت الصورة أهم مما قيل، لقد دخلت السجن بشعرها مفلفلاً، وخرجت به كما دخلت، ورغم عشرات الوقائع التي نسفت هذا النموذج نسفاً، فإن واقعة اغتيال شيرين أبو عاقلة، والتي استهدفها قناص في الجيش الإسرائيلي، لمجرد كونها صحافية فلسطينية، هو النموذج الأكثر وضوحاً، ولا ننسى أنهم قبل أيام كانوا يثيرون استهداف المقاومة للمدنيين، فما هو الرأي الآن؟!
إن شيرين أبو عاقلة صحافية مهنية، يتسم أداؤها بالرصانة، فلا تميل للاستعراض، ولا تذهب إلى الدخول في أزمة تجعل منها موضوعاً مثيراً، وفي ذروة الأحداث في الأرض المحتلة، فإنها تقدم للمشاهد ما يحدث وكأنها تجردت من حماس يجعل من رسالتها خطبة، حتى تبدو أنها محايدة تماماً، لولا ما علمناه بعد ذلك، من أنها اختارت موقعها بعناية، وقد عاشت في الولايات المتحدة الأمريكية، وحملت جنسيتها، وكان يمكن أن تمارس عملها من هناك، لكن الخيار كان فلسطين مع سبق الإصرار والترصد، وخدم مهنيتها عدالة القضية، فلا تحتاج سوى لنقل الحقيقة بدون تحيز، ليقف المشاهد على جرائم الاحتلال، ولو أن صحافية غربية، لا يربطها بفلسطين أي رابط مما كان يربط شيرين بها، وقررت نقل الحقيقة المجردة، لكان في ما تنقله انتصار لقضيتنا، بدون خروج على مقتضى الواجب الوظيفي!
وقد سبق هذا الإعلان عن اختيار شيرين أبو عاقلة لمكان عملها، وهو أمر لم نعرفه إلا بعد الاغتيال، أنها على منصات التواصل كانت تعلن عن انحيازها لفلسطين، أرضاً، وقدساً، وأقصى، بشراً وحجراً.
محاولة الإفلات
وقد كشف اغتيالها عن السلوك البربري، فكان الأكثر فداحة هو محاولة الجناة الهروب بجريمتهم، بالادعاء في البداية أن من استهدفها هو الرصاص الفلسطيني، قبل تجاوز هذا الادعاء المبتذل، إلى القول إنها راحت بسبب وجودها في منطقة اشتباك، لكن تبين أن هذا لم يكن صحيحاً، فلم يكن هناك اشتباك، أو إطلاق نار، فالنار خرجت من بندقية قاتل محترف، كان يدرك أنها ترتدي سترة الوقاية، فاستهدفها من منطقة خارج هذه الحماية لضمان وفاتها!
لقد اختارت يد الخسة والغدر الهدف بعناية، وكان الاختيار الصحيح لقضية فلسطين، ولتمكين الرأي العام العالمي من الوقوف على حقيقة الجناة، وعدالة القضية التي وهبت شيرين أبو عاقلة لها نفسها، فعزفت عن الزواج ولم تشغل نفسها ببناء أسرة، وإنجاب أطفال، بما قد يعوقها عن أداء رسالتها.
وهي إن كانت ماتت، فالموت نهاية كل حي، ويكفي أنها ماتت ميتة يكتب بسببها اسمها بأحرف من نور في سجلات التاريخ، لتصبح واحدة من العناوين المهمة في قضية فلسطين، وتذكر بجرائم من يقدمون أنفسهم على أنهم متحضرون، في محيط يعج بالهمج، الذين يستهدفون المدنيين!
لقد قتلوا شيرين، لأنهم لا يميزون بين صحافي ومقاتل، وبين الكاميرا والمدفع، وبين مسيحي ومسلم، وبين رجل وامرأة.
إنها نهاية مشرفة لشيرين أبو عاقلة، فقد اغتيلت في ساحة العمل، وفي رحاب مهنتها، ودفاعاً عن قضية عادلة.
فلا نامت أعين الجبناء!
وسوم: العدد 981