لقطات من معاناة معتقل -19-
تحت عنوان "من تدمر إلى هارفارد" كتب الدكتور براء السراج، الأستاذ في قسم زراعة الأعضاء في كلية الطب في شيكاغو، مذكراته عن سجن تدمر. ونسجّل هنا بعض فقرات من مذكراته الغنية، في حلقات قصيرة متتابعة:
في سجن صيدنايا – 1993م:
"ومضى يوم آخر".. كانت هذه جملتي المفضّلة كل يوم إثر إغلاق الأبواب. أمضيتُ أياماً في ضيافة غرف الجناح بهدف التعارف، حيث نقضي الليل نتحدّث ونتحاور ونتناقش. كان عليّ أيضاً أن أستوعب الوضع السياسي في الخارج ومحاولة معرفة ما حصل في ما يقارب عقداً من الزمن. لم أصدّق أن الاتحاد السوفييتي قد سقط وأن ألمانيا قد توحدت، ولم أفهم وضع حرب الخليج أو مصر وعودتها للجامعة العربية.. وضع الجزائر والبوسنة والهرسك وغيرها كثير مما كان علي أن استوعب وأفهم الخلفيات لأبدأ هواية التحليل السياسي المتجذّرة في عروقي.
وصلتنا ذات يوم رسالة من ثلاث صفحات من جناح آخر في وصف دقيق مذهل لمجزرة تدمر ممن حضرها وكان في السجن بتهم لاإخوانية. كان ضرب السجناء عنيفاً قبل يوم حيث تم عد السجناء مساءً. في الصباح الباكر من 27 حزيران 1980م، أتى الرائد فيصل غانم ونائبه النقيب بركات العش ومرّا على باحات السجن وأخذا وثائق معينة من مكتب إدارة السجن. كان قد تم فرز السجناء بتُهم لاإسلامية في مهاجع خاصة. بقيت طائرات الهيلوكوبتر تحلّق مدةً فوق السجن لتحطّ في المطار القريب، وتم استبدال الشرطة العسكرية بسرايا الدفاع. تم اقتحام السجن حوالي التاسعة صباحاً برمي القنابل أولاً إلى داخل المهاجع من الشبابيك يعقبها فتح الأبواب ورمي السجناء بالرصاص. كانت الحفر في الحيطان والناتجة عن إطلاق الرصاص تبدو واضحة في زوايا المهاجع التي مررت بها، خاصة في دورات المياه، حيث يبدو أن الناس قد تجمعت برعب هرباً من الموت المفاجئ. استمر إطلاق الرصاص والإجهاز على السجناء حتى الظهر، كانت خلالها سيارات تطلق أبواقاً عالية في المدينة القريبة للتغطية على أصوات الرصاص. عند المساء طاف ضابط أمن السجن على المهاجع للإجهاز على من بقي حيّاً من الجرحى، ولم ينس تشليح الساعات اليدوية وأخذ المال الموجود في جيوب القتلى. بقيت الجثث ثلاثة أيام وامتلأ السجن بذباب لا يعلم عدده إلا الله وهو يطوف بين الجثث التي بدأت بالتفسخ وانتشرت الروائح الكريهة في كل مكان...
22 كانون الأول 1994م:
واضح أنني بدأت الإصابة باكتئاب شديد، فقد كنتُ أبكي طوال الوقت، ولا أستطيع النوم، وكنت أمضي الوقت سيراً لا يتوقف إلا عند وصولي للحظة إنهاك. بقي الشباب في الجناح السابق يراسلوننا، وكان ميسّر يرسل مناصفةً ما يأتيه من طعام وثياب من أهله، وكان قد أرسل إليّ رسالة فيها قصيدة رقيقة..
وسوم: العدد 987