عن المستور في شخصية الديكتاتور

من الأخبار التي لم تسترع الأسبوع الماضي كبير انتباه أن رئيس تحرير جريدة نوفايا غازيتا الروسية المستقلة، الذي فاز العام الماضي بجائزة نوبل للسلام مناصفة مع الصحافية الفلبينية الشجاعة ماريا ريسا، قرر بيع ميدالية الجائزة بالمزاد حتى يتمكن من جمع بعض المال اللازم لإعانة الأطفال من ضحايا الغزو الروسي لأوكرانيا. وكم كانت دهشة ديمتري موراتوف، الذي ذهب إلى نيويورك لهذا الغرض، عظيمة عندما قفز المزاد في غضون عشرين دقيقة ليستقر على 103 مليون دولار. وقد حول المبلغ إلى اليونيسيف، التي قدرت عدد الأطفال الأوكرانيين المحتاجين للمعونة بخمسة ملايين ومائتي ألف طفل. وقال موراتوف إنه استلهم هذه البادرة من عالم الفيزياء الدنماركي الشهير نيلز بوهر الذي تنازل عن ميدالية جائزة نوبل عام 1940 معاضدة منه للمجهود الحربي الفنلندي ضد الغزو السوفييتي.

وسواء قصد موراتوف أم لم يقصد، فإن ما يتبادر إلى الذهن هو أن اقتداءه ببوهر إنما يتنزل، فضلا عن نبل الواعز الإنساني، في سياق من التفاؤل التاريخي باحتمال أن تنجح أوكرانيا في ما لم ينجح فيه أي بلد أوروبي سوى فنلندا: أي دحر الغزاة الروس. وقد بينت فظاعة الجرائم التي اقترفها هؤلاء الغزاة في أوكرانيا أن ما ذكره الرحالة والكتّاب الأوروبيون، طيلة خمسة قرون، عن «الهمجية الروسية» لم يكن مجرد دعاية مجانية. وحسبنا التذكّر بأن جوزيف كونراد، الروائي المحبب لدى إدوارد سعيد، لم يتوقف طيلة حياته عن التنديد بهمجية النظام السياسي والعسكري الروسي وبالغ عنفه وقسوته. فقد عرف كونراد هذا النظام وخبره لأنه ولد ونشأ في أوكرانيا لأبوين بولنديين ونفي مع عائلته بعد مشاركة والده في الانتفاضة البولندية عام 1863.

اشتهرت نوفايا غازيتا، التي كان موراتوف من مؤسسيها عام 1993، بتحقيقاتها حول الفساد المالي والإداري وانتهاكات الحقوق والحريات في روسيا. وقد كلفها عملها هذا باهظا، حيث أن ما لا يقل عن ستة من صحافييها تعرضوا للاغتيال. وقد اضطرت الجريدة، أواخر مارس، إلى الإغلاق بسبب تشدد السلطات الروسية مع أي كلمة قد يشتمّ منها رائحة الاعتراض على «العملية الخاصة» في أوكرانيا، كما اضطر عدد من صحافييها إلى مغادرة روسيا وأخذ طريق المنفى إلى أوروبا الغربية، حيث أطلقوا جريدة نوفايا غازيتا أوروبا التي آلت على نفسها مواصلة نشر التحقيقات، باللغتين الروسية والإنكليزية، حول تطورات الأحداث في روسيا وأوكرانيا. وفي أوائل مايو وجه رئيس تحريرها، كيريل مارتينوف، نداء إلى الصحافة الأوروبية قال فيه «لم يعد في استطاعتنا النشر في بلادنا. لهذا نطلب منكم مساعدتنا على أن ننشر في أوروبا بعضا من مقالاتنا بمناسبة التاسع من مايو»، اليوم الذي يرأس فيه فلاديمير بوتين الاستعراض العسكري السنوي الذي تحيي به روسيا ذكرى انتصارها على النازية. وقد استجابت عدة صحف أوروبية لهذا النداء فنشرت مقالات لصحافيي نوفايا غازيتا أوروبا. وكانت بادرة ذات مغزى إنساني وإعلامي مؤثر أن الصحافيين الروس أرفقوا مع مقالاتهم الجديدة نصا كتب في 6 مايو 2004. أما أهميته فهو أنه بقلم الصحافية العملاقة بشجاعتها ونزاهتها، آنا بوليتكوفسكايا، التي اغتالتها السلطات الروسية لأنها لم تدخر جهدا لا في فضح الفساد والاستبداد، ولا في تعرية شخصية بوتين بكل نقائصها ووساوسها التي تجتهد بروباغاندا النظام في حجبها خلف مساحيق العظمة الزائفة.

في هذا النص، كشفت آنا بوليتكوفسكايا المستور في شخصية الدكتاتور و«صفعته بحقائقه الأربع»، كما يقول التعبير الفرنسي، على وجهه البارد الباهت حد البلادة. مثال: عن «تتويجه» رئيسا يوم 7 مايو 2004 كتبت: «غدا ستطأ السجادات الحمر في قاعات العرش في الكرملين قدما هذا الحارس الشخصي من الدرجة الخامسة والعشرين الذي لا مكان طبيعيا له إلا في صف الحزام الأمني الذي يسهر على صد الجموع عندما تمر مواكب عظماء العالم. هذا الذي لم يستطع الارتقاء ولو لرتبة عقيد. هذا الذي تعوّد، مثل جميع ضباط الاستخبارات السوفييت، التجسس على زملائه، هذا الحقود الذي يقيم على الضغينة، هذا الشخص التافه الشأن تفاهة أكاكي أكاكيفيتش (شخصية باهتة من شخصيات قصة «المعطف» لغوغول)… لقد صار جليا أن الاتحاد السوفييتي أخذ بثأره من روسيا بمجيء هذا الأكاكي أكاكيفيتش بوتين إلى الحكم».

النص طويل ومثير، وقد ضمّن في الكتاب الذي صدر عام 2004 بعنوان «روسيا وما آلت إليه في عهد بوتين». في 7 أكتوبر 2006 أتى الجواب على الكتاب: اغتيلت آنا بوليتكوفسكايا يوم احتفال الدكتاتور بعيد ميلاده السعيد. مجرد مصادفة… من ذا الذي يجرؤ على اتهام المصادفات؟!

وسوم: العدد 987