الانحرافات الصارخة في سلوك الناشئة مؤشر على تعمد الآباء والأمهات وأولياء الأمور ترك الحبل على الغارب في تربيتها
بداءة بدء ،لا بد من تذكير الآباء والأمهات وأولياء أمور الناشئة بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم تجاه فلذات أكبادهم شرعا بنصوص القرآن الكريم ،ونصوص الحديث الشريف ، حيث يأمرهم الله تعالى بوقايتهم كوقاية أنفسهم من سوء المصير في الآخرة في قوله عز من قائل : (( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة )) ، ومن كان يزعم أنه يخشى على أبنائه من حريق الدنيا ، فالأجدر به أن يكون أشد خشية عليهم من نار الآخرة ، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملهم مسؤولية انحرافهم عن الفطرة السليمة التي فطرهم الله تعالى عليها في قوله عليه الصلاة والسلام : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه ، كما تنتج البهيمة جمعاء ، هل تحسّون فيها من جدعاء " .
والمتأمل في الآية الكريمة، يدرك حجم المسؤولية التي تطوق أعناق الآباء والأمهات وأولياء أمور بخصوص تعهد الأبناء والبنات بالتربية السوية التي تحميهم من شر مستطير، ذلك أن نار جهنم لا يردها إلا من انحرف عن الفطرة السوية بسبب فساد تربيته ، كما أن المتأمل في الحديث الشريف، يدرك أيضا جسامة مسؤولتهم لأنهم هم السبب المباشر في انحراف فلذات أكبادهم عن الفطرة السوية التي فطرهم الله تعالى عليها. والحديث فيه أمثلة عن الانحراف الذي يطال الفطرة إما تهويدا أو تنصيرا أو تمجيسا مع برهنة عقلية مقنعة من خلال التمثيل بالبهيمة التي تولد جمعاء سليمة الأطراف لا أثر للجدع أو البتر في أعضائها. وإذا ما وجد في البهيمة بتر، فإنما يكون ذلك بفعل فاعل . وقياسا على مثال البهيمة الجمعاء، يقاس الآدمي الذي يولد على فطرة سليمة ، فإذا ما اعتراها انحراف فإن ذلك يكون بفعل فاعل أيضا ، وما ذلك الفاعل سوى أبواه .
وقد يزعم بعض الآباء والأمهات أنهم قد يذلوا الجهد الجهيد في الحفاظ على الفطرة السوية لأبنائهم وبناتهم، لكن هؤلاء انحرفوا بمحض إرادتهم ، وهو تبرير غير مقبول ،ومن تذرع به فكأنه يكذب ما جاء في كتاب الله عز وجل ، وفي حديث رسوله صلى الله عليه وسلم . ولا شك أن الذين يسوقون هذه الذريعة بين يدي التقصير في تربية فلذات أكبادهم للتملص من مسؤوليتهم أمام الله عز وجل وأمام المجتمع هم أحد صنفين :
ـ صنف يختزل مسؤوليته تجاه الأبناء في توفير ظروف العيش لهم مسكنا، ومركبا ، وملبسا ،ومأكلا، ومشربا ، و تطبيبا، وتمدرسا، وترفيها ... وكل ما هو مادي صرف دون أن يخطر لهم على بال أن ذلك مجرد شطر من مسؤوليتهم ، ويبقى عليهم الاضطلاع بشطر لامادي تختزله كلمة " تربية " ،علما بأن الناشئة تربى أو تنمّى جسديا بالطعام، والشراب، والدواء في حالات العلل ، وتربى وجدانيا بمئونة معنوية قوامها تنمية المشاعر والأحاسيس والعواطف النبيلة ، وتربى روحيا بمئونة معنوية أيضا قوامها التهذيب الديني ، وتربى عقليا بمئونة معنوية أيضا قوامها المنطق السليم الموافق للحق والمؤيد بالشرع ، والواقي من الأوهام والخرافات والدجل ...، وهذا الصنف من الآباء يحمل مسوؤلية توفير التربية اللامادية أو المعنوية لمؤسسات التربية والتعليم ، وغالبا ما يشتمون ويسبون المربين عندما يلحظون في سلوك أبنائهم ما لا يروقهم وما لا يرضيهم ، ويبادلهم المربون الشتائم والسباب أيضا عندما تزعجهم سلوكات الأبناء المنحرفة داخل أسوار المؤسسات التربوية ، وفي فصولها .
ـ أما الصنف الآخر من الآباء، فيخيل إليهم أنهم يضطلعون بمسؤولية تربية أبنائهم التربية السوية إلى جانب توفير طعامهم وشرابهم ، ولباسهم ... دون تحري ما تتطلبه هذه التربية من ضوابط شرعية وعقلية ، ويتوهمون أن تربية أبنائهم سوية بل نموذجية أو مثالية حتى تصدمهم يوما ما حقيقة وهمهم ، فيكتشفون أنهم قد أخطئوا سبل تربيتهم التربية السوية الصحيحة .
أما أولئك الذين يفسدون تربية أبنائهم بسبب سوء تربيتهم هم أيضا، فلا حاجة للخوض في موضوعهم ، وعليهم ينطبق المثل الشعبي القائل " إنما يمر الخيط من حيث يمر المخيط " كناية عن متابعة الأبناء آباءهم في سلوكهم حذو النعل بالنعل . ومن الأمثلة الشعبية في نفس السياق أيضا قولهم : " اقلب القدر على فمها ، تطلع البنت شبه أمها "
ومعلوم أن واقعنا المعيش ، يشهد انحرافات صارخة وخطيرة في سلوك ناشئتنا تعكسها مظاهر وظواهر نعدّد منها ، ولا نعدّها ، فعلى مستوى الهيئة أول ما يسترعي الانتباه لدى الشباب هو طرائق حلاقتهم التي يميزها القزع ، وهو حلق أجزاء من الرؤوس دون أجزاء أخرى ، وقد تنوع هذا القزع ، وجاء الحلاقون فيه بالعجب العجاب . وسبب هذه الآفة هو تقليد الناشئة للمشاهير خصوصا في مجال رياضة كرة القدم أو الطرب والغناء ...علما بأن كثير من هؤلاء لا خلاق لهم ، وطرق حلاقتهم تعكس فساد أخلاقهم كما تكشف عنها وسائل الإعلام يوميا ، والآباء على علم تام بذلك ،ولكنهم لا يحركون ساكنا حين يدخل عليهم أبناؤهم برؤوس قد حلقت على طريقة حلاقة أولئك المشاهير ، علما بأن هؤلاء الأبناء لا يقلدونهم في حلاقتهم فقط بل في سلوكهم أيضا، لأن التشبه بقوم يجعل المتشبه بهم منهم أو مثلهم كما جاء في الأثر خصوصا وأن انحراف معتقدات وقيم أولئك المشاهير واضحة لا غبار عليها ، وفضلا عن حلاقة القزع المكروهة في شرعنا بل والمحرمة إن كانت تشبها بالكفار، نجد سراويل رعاة البقر المفتوقة على الركب هي السراويل المفضلة عند أبنائنا ، وهي مما يقتنيه الآباء لهم عن قصد و عن سبق إصرار .
وأما بذاءة الألسنة، وفحش الكلام المتداول بين هؤلاء الأبناء في الشوارع وحتى داخل المؤسسات التربوية بلداخل فصولها أيضا فحدث ولا حرج ، ويكفي فيها التلميح عن التصريح لشيوعها شيوعا غير مسبوق ،وقد تؤذي آذان الآباء وهم يمرون بجموع الفتيان في الشوارع وعند بوابات المؤسسات التربوية ، وهم يظنون أو يتوهمون أن أبناءهم بمنجاة من ذلك ، وأكثر من ذلك قد ينتقدون تربية من يفوهون بالكلام النابي والساقط ، ويلمون غيرهم من الآباء لتقصيرهم في تربية أبنائهم، وهم يجهلون أن غيرهم ينتقدهم أيضا لنفس السبب .
إن هذا غيض من فيض كما يقال بالنسبة لحال الأبناء أما حال البنات ، فلا يقل سوء ،ذلك أنهن يتخذ أيضا من الممثلات وعارضات الأزياء والرياضيات... قدوة لهن في لباسهن ، وفي تصفيف شعورهن ، وهن يشاركن الفتيان في ارتداء سروال رعاة البقر المفتوقة ليس على الركب فحسب بل على السيقان أيضا الشيء المنافي للتعفف والحياء ، والصارخ بالتهتك. وأما المساحيق التي تطلى بها الوجوه ، فحدث ولا حرج ، وإنهن ليدخلن على الآباء وهم على تلك الهيئات والأحوال دون أن يشعر هؤلاء بوخز من ضمير . وليس تفحش البنات في الكلام أقل بذاءة من تفحش الفتيان الذين يخالطنهم في الشوارع ، وفي ساحات وفصول المؤسسات التربوية .
وهؤلاء بنات وبنين ممن يرتادون المؤسسات التربوية ـ يا حسرتاه ـ أما من غادروها، فلا حديث عنهم في هذا المقال ، وقد ألقيت حبالهم على الغارب ،مما زادهم إيغالا في جميع أنواع الانحرافات .
وموازاة مع هذه الأحوال الباعثة على القلق الشديد ، لدى الناشئة المتعلمة تحديدا تكثر الأحاديث عن تدني مستويات التحصيل الدراسي بشكل فظيع ، وما أحوج هذه الناشئة إلى نصح الإمام الشافعي القائل :
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نـــــــــور ونور الله لا يهدى لعاصــــــي
ومن من الآباء والأمهات وأولياء الأمور في هذا الزمان يتمثل قول الإمام الشافعي ؟ فيبدأ أولا بتربية أبنائه وبناته التربية السوية قبل أن يرسلهم لطلب العلم وينتظر منهم حسن التحصيل ؟
وأخيرا نختم بالقول إن الانحرافات الصارخة التي ترصد اليوم لدى ناشئتنا ،هي مؤشر واضح على ترك الآباء والأمهات وأولياء الأمور الحبل على الغارب بخصوص تربية أبنائهم وبناتهم . وإذا كان ترك حبل المطية على الغارب يتسبب في شرودها ، و في صعوبة قيادها ، فإن إهمال الآباء والأمهات وأولياء الأمور تربية الناشئة ،وترك الحبل على الغارب في ذلك يعتبر كارثة عظمى .
وسوم: العدد 1000