هنا... غزة
مريم برزق
كأيِّ بلد أو كأيِّ مدينة، أو إنْ شئت قل كأيِّ حدود سكانية، لا فرق بينها وبين أيَّة دولة أخرى إلا ما يمكن وصفه بالنسبة والتناسب.. هذا هو الشعور الذي يصاحبك لأول وهلة قد تسيطر عليك حينما تبدأ استكشاف هذه المدينة "الجديدة" لأول مرة، أو "القطاع" بلفظ أصح وهي الخصوصية التي يتميز بها عن غيره..
هنا غزة بل قطاع غزة المكان الذي ضجَّ العالم من أجله، يتقاذفك القدر إلى أرض الوطن على غير موعد.. تأتي وقد حُفرت في ذاكرتك مشاهد لا توصف وقصص لا تنسى.. مآسٍ لا يمكن أن تمحوها الأيام ولا مرور الأزمان، وهنا كذلك بطولة وشهامة قلَّ نظيرها في التاريخ، ومعانٍ سطرت للصمود والتضحية والإباء..
هنا غزة..
تستيقظ منذ الصباح تتجول في المدينة راسماً في مخيلتك أنَّ الحياة تبدو ميتة وشبه معدمة أو أنَّ الحياة ما هي إلا مظهر من مظاهر العسكرة والجيوش؛ فهي من عاش الحروب منذ زمن، وهنا تكمن المفارقة والمفاجأة التي لم تتوقع!!
إنها غزة الحياة، الحياة بكل معانيها وصورها، ضجيج الباعة والمتجولين، حركة المواصلات وأزمة المرور، رواد المدارس وطلبة العلم، هنا الجامعات التي تفتح أبوابها، التجارة وأعمال البناء، وكذلك الأبراج والأسواق والمنتزهات.. هنا الأفراح والأعراس وهنا المآتم والأحزان، لا يثير انتباهك أيَّ جديد سوى المساحة التي أقل ما يمكن وصفها بأنها صغيرة جداً بالكاد تتسع لاستيعاب كثافة سكانية تجاوزت المليونين بقليل، فالمسافة التي تقطعها من شمال القطاع حتى جنوبه تكاد لا تتجاوز الساعة والنصف بالكثير، لا وجود للمظاهر العسكرية التي تتوقع مشاهدتها، الناس هنا عاديون منشغلون كلٌّ بعائلته ووظيفته وعمله، لقمة العيش هي همُّهم ولسان حالهم الدعاء بأنْ يكفيهم الله شرَّ الحروب والأعداء.
الأرض هنا منبسطة كلَّ الانبساط، مكشوفة تماماً كراح اليد، لا جبال ولا هضاب تسترك أو تعميك أو تخفيك عنهم أو تحتمي بها من اليهود!!
هنا حدود القطاع.. وهنا تبدأ التساؤلات من جديد، هل حقاً وصلنا حدود القطاع؟! ما من شيء غريب يثير انتباهك أو يلفت نظرك اللهمَّ إلا من صورٍ على الجدران تحمل اسم شهيد وأخرى عليها بعض آثار القصف والدمار.
وهكذا في كل يوم، تُثار التساؤلات، لا تشعر بما يميِّز هذه البقعة عن غيرها سوى بعض مشاهد الدمار هنا وهناك..
لا زلت أبحث عن غزة.. غزة العزة، غزة التي أعرف والتي أريد، غزة الجهاد والمقاومة..
يجنُّ الليل ويحلُّ الظلام حاملاً معه البرد القارس والرياح العاتية.. السكون رهيب، والصمت مطبق، لا أحد يتجول في الطرقات، الأضواء خافتة، لا حركة ولا مرور؛ فالحياة تتوقف مع أذان العشاء أو بعده بقليل، كلٌّ مشغول ببقية أعبائه المنزلية والجلوس إلى المدفأة ثم الخلود إلى النوم بانتظار اليوم الجديد لتبدأ دورة الحياة من جديد بروتينها ورتابتها واعتيادها..
لكنَّهم هنا..
الرابضون على الثغور، حارسٌ أمين، ومقاتلٌ جسور، وبطلٌ شجاع، ومجاهدٌ مخلص، وعينٌ ساهرة.. يحملون أرواحهم بأكفِّهم، يتركون الدنيا خلفهم، باعوا أرواحهم رخيصة في سبيل الله، وبذلوا أنفسهم لنصرة دينه وإعلاء كلمته، لم تشغلهم الدنيا ولم تغرهم زخرفتها، زهدوا بترفها وأداروا وأشاحوا عنها -نحسبهم كذلك والله حسيبهم- ليل غزة هو الصباح، وظلام غزة هو الفلاح.
إنهم هنا يرتدون بزتهم وجعبتهم يربطون أحذيتهم ويمتشقون سلاحهم يودعون أهلهم ويخرجون، يتسللون بهدوء وحذر، كلٌّ قد أخذ أهبته واستعداده وأخذ موقعه هناك حيث الحدود من أقصى القطاع إلى أقصاه من برِّه إلى بحره، يحملون ما خفَّ من الزاد وما كثر من اليقين والإيمان، يسهرون حيث ينام الناس، يُمضون ليلتهم على قلب رجل واحد، لا صوت يعلو فوق صوتهم، الهمس خافت والدعاء متواصل واليد ضاغطة على الزناد والعين ساهرة يتحركون بخفة..
يمضي الليل بثقله وصقيعه لكنه لهم هو النشوة وهو الموعد حتى الصباح.
إنهم المرابطون.. نعم لا تتعجب لا تستغرب فهذا اسمهم وهذا لقبهم فهم "المرابطون" ولياليهم هي "ليالي الرباط".
هما عامان في غزة العزة.. هما عامان في وطني فلسطين.. أدركت فيهما كم هي غالية هذه الساعات وكم ثمينة هي الدقائق وعزيزة تلك الثواني التي لا تعادلها أي أوقات أخرى، إنها بقعة طاهرة مباركة، إنها غزة أرض الأسرار حتى إذا طال بك المقام أباحت لك بأسرارها وأظهرت لك مكامنها، كانت حلماً وغدت اليوم واقعاً وها أنا ذا أحاول أن أقرأ ملامحها وأن أتفرس فيها جيداً، ويأتيني الجواب: هنا الوطن، الوطن الذي يحيا فينا ويعيش فينا ويسكن حبَّه فينا.