في المسيرة الثقافية

للقيم الثقافية المتميزة تأثير في حياة  الناس , وتأثير في مسيرة تلك الثقافة , إذا أسعفها التكوين القويم، وأدركت مساراتِها التجاربُ الفاعلةُ , وضمنتها معاناة المبدعين أجمل الصور  وأحلاها . فصدق المعاناة , واستنارة الفكر , والخروج من دائرة الذات, والانطواء تحت لواء الإيجابية والتوازن في العطاء الفكري والأدبي... تولد الروائع الفكرية , والبدائع الأدبية التي يتقبلها المجتمع على اختلاف مواطن ومواقع شرائحه في الحياة الاجتماعية. فقد تُملأُ الساحة الأدبية أو الفكرية بكثير من مظاهر اللغط والصخب وقد تستحوذ على عقول بعض الجالسين على أرصفة النقض لكل ما هو  حلو وجميل , أو على مشاعر الذين يدخلون أحناء النوايا التي لا يعلمها إلا الله جلت قدرته... فهؤلاء يرجى لهم الخروج من تلك الساحة أو يُؤمَّل منهم اعتدالُهم وتقبلُّهم لمسيرة القيم الثقافية خدمة لمكانة الأدب العربي بين الآداب العالمية , واستجابة لنداء المهتمين بهذا الأدب والحريصين على بلورة أسفاره الناصعة بالحروف المتلألئة بالصدق والوفاء ,والجادة في صياغة هادئة ومبدعة تنادي بتنافس شريف لا يرضى البغي أو الإنكار ,ولا يرضى أيضا ركوب ظهور الغرور والتعالي.

دعوتنا على صفحات – منارة الفرات – ملؤها المحبة والشوق إلى رؤية أدب بعيد عن المباهاة والتفاخر , متبرِّئٍ من حظ الهوى والنفس  الأمارة , مشوق إلى القصائد الرقيقة والقصص المنيفة , والمقالات الجادة النافعة ،وهكذا في بقية فنون ومحاور الأدب . حتى تستطيع (مسيرة القيم الثقافية) منح ثمارها اليانعةلكل الرواد ثم لكل الأقلام الواعدةوأخيرا لعامة أبناء وطننا الأعزاء حيث الفائدة والمتعة . وبذلك نرى مسيرةً تشتهر بالقدرة على الإبداع,وتُعرف بالتأثير في نطاق من الإخلاص والإحساس بمكانة خدمة الآخرين .والإنصاف لتلك المسيرة هو من حقِّ أهلِها و روادِها . فالاستثمارُ الثقافي يقوم به ، ويقدمه الروَّادُ ،ومن حق الآخرين أن يجدوا فيه ضالتَهم المنشودة ، ويمتِّعوا طموحاتهم بمساهمات متنامية متسامية ، تُؤيد تطلعات المتلهفين إلى رؤية ملامح النصوص والمضامين التي تهزُّ الوجدان ، وتدفع إلى الانفعال المحصَّن بالوعي والثقة بالنفس ، وذاك هو الأدب المقبول ، وتلك هي الثقافة الغنية ، وأولئك هم حملة ألوية تلك المسيرة بكل مافيها من بيانٍ ناصع ، ومعانٍ ثريَّة بالفكر ، ومنبرٍ لإســداء المشاعر الفياضة بالنبل والسُّمُو ، وبالريادة أيضا . 

ولو وقفنا على ــ مســافة مـا ــ من المسيرة الثقافية الشاملة ، ولْيكنْ في مجال الإعلام ـ مثلا ـ لعلمنا ضرورة الأخذ بالإيجابيات في تلك المواطن . والتحذير ممَّـا يُطرح فيها من السلبيات الذميمة والمؤثرة على التربية الثقافية والاجتماعية ـ على حـدٍّ سواء ــ خصوصا إذا كانت الحرية المتفلتة هي الطابع الســائد فيها . حين توضع بين أيادي جمهور من الأطفال أو الشباب الذين لايُقدِّرون عواقبَ الإساءة إلى أنفسهم و وطنهم على امتداد أيام مقارفة هذا الداء الظاهر الخفي ، وكذلك حال أرتال المشاهدين والمشاهدات في مختلف البلاد والبقاع . ولن تنطلي على أُولي البصيرة مقولة ( انتهاء عهد الأُمية ) مع ظهور التكنولوجيا في العصر الحديث . من حيثُ تطورها في المجالات المرئية والمقروءة والناطقة . بل إن العقلاء في العالم اليوم شعروا بخطر هذا الانفلات الثقافي ، بل العشوائي ، وراحوا ينادون باتخاذ الدور الواعي الحكيم لوقاية مستقبل الأجيال ومسيرتهم الثقافية ـ على الأقل ـ في هذا الجانب من حياتهم ، كيلا تنهار جدران القيم والمآثر التي تتمتع بها الشعوب عامة ، وشعبنا العربي بشكل خاص ، شعبُنا ذو المجد والسؤدد والأصالة .

ثقافة العصر ... تيَّـارٌ جارفٌ من سراب الصَّرعات والموضات والأعاجيب التي باتت مدمَّجةً في أفكار وقضايا تعتمل في حنايا أبناء هذا الجيل ،حتى أصبح مروِّجو هذا التيار يتنافسون في فلسفة التغليف والتزويق والإخراج لاستعمار أكبر مساحة من حياة الناس في رؤاهم ومعتقداتهم ، وفي مسيرتهم الثقافية على تنوع شرائحهم . 

وإنَّ باب طرح العلاج واسع ومتعدد الجوانب ، وعلى أطرافه تتوزَّعُ كراسي التخلف أو التقدم ، وأخرى للتبلد أو الإبداع ، وأخرى لإبادة مقومات الأصالة أو لتأهيلها في مزارع نموٍّ حضاري قويم ... وهكذا تتناغم بشكل أو بآخر ، وتمتد أمام الأعين المتناقضات التي لاتكاد تنتهي ، والتي تراوح الشعوب على اهتزازاتها المؤلمة للنفس وللفكر ، رغم زخم ما حولها من بهرجة الحضارة المناوئة للفطرة ، وزخرفة التكنولوجيا الحائرة بين الألوان والأجناس ، ثم بين الاحتكار وحب التسلط على الآخرين .

فلا بد من ربط المسارات الصحيحة ، والنماذج الرائدة النابعة من ضمير و واقعها ، وإبعاد المفرزات الشاذة ، والنأي عن آفاق الخيال المفرط ، ومن ثمَّ رعاية حالات الابتكار وإنتاج الأفكار التي تُعنَى بالقيم الإنسانية الجادة ، والمؤهلة ـ أصلا ـ لتمهيد السبيل أمام أصحاب الكفاءات التربوية ، وذلك لضمان النتائج المرجوَّة ـ بإذن الله تعالى ـ . هذا إذا كانت الدوافع سليمة ، والنوايا صافية ، والبواعث مســـؤولة ، وعندئذ تكون عملية التكامل والتكافل في خدمة المتخصصين في أمكنتهم المناسبة لهم ، لبناء جيل المسيرة الثقافيةالذذذي يترفع عن كل المشاعر الكاذبة ، وإن كانت حلوة وناعمة وميسرة ومدعومة بالوعود البرَّاقة التي سرعان ما تتلاشى في سراب المقايضات الباردة رغم حرارة اندفاع فرسانها . 

إذن ... الجدير بالمسيرة الثقافية أن تُهيئَ مراكبَ السلامة للأقلام الواعدة ، بما يكفل لها التفوق والتألق ـ ولو بعد حين ـ ومعالجة السلبيات التي لم تعدْ تخفى على ذي عينين ، بجــدِّ وبدون محاباة لأن الجميع شركاء في حماية تلك المسيرة ، وتأهيلها للدور الكبير المنوط بها ، وأن تكون عمليات التقويم والتوجيه مستمرة و واعية و حذرة . وأن تدعم نتائجها بالتوصيات التي تتصدَّى لمكامن الخلل أو الخطأ  باقتدار و وعي و وفاء ، غير عابئة بالمجاملات أو قوة الترويج أو حنكة التسويق الذي تراءى مبتذَلا بعد الانتكاسات المتلاحقة . إنَّ من حقِّ الجميع أن يكتبوا ، ولكن ليس من حق الجميع أن يزرعوا الورود الاصطناعية في بساتين رعاية الورود بالماء والهواء ، حتى لو كان الماء كدرا ، والهواء غير نقي . إذ ليست كلُّ التصاميم يجب أن يُكتَبَ لها الدخول في عالم التنافس ، إلا إذا كانت تتمتع ـ تلك القطع الجمالية ـ بمفردات التنافس الشريف ، تلك المفردات ذات الميزان الدقيق في ذهن وأُذن وعين أهل المعرفة والوعي . وغير تلك القطع يعود بلا ريب إلى أسواق الاستهلاك المحلي ، وقد يباع بالثمن البخس !! 

إيمان قاسم

*وجدت هذه المقالة بين طيات مالدي من كتب و أوراق و مجلات قديمة ، وما عدت أذكر هل هي لي وأنا كتبتُهـا ، أم أنني احتفظ بهـا لفائدتها ــ والله لاأدري ــ وفي كلا الحالين أجد فيها الفائدة لمَن شاء أن يقرأ ولا ضير  .

وسوم: العدد 1008