حينما نكتب في الشأن الإسرائيلي وعلاقته بالشأن الفلسطيني نتذكر قول الشاعر زهير بن أبي سلمى : " ما أرانا نقول إلا معاراً = أو معاداً من قولنا مكرورا " . لم تبق نقطة أو زاوية من هذا الشأن أو الصراع الوجودي لم تفحص فحصا دقيقا بأقلام عربية وإسرائيلية وعالمية ، وبأحاديث وآراء شفوية ، وسوى ما سبق من وسائل التعبير وإظهار الرأي مع أن خطوط الشأن واضحة محددة موجزة : مهاجرون غزاة سرقوا وطن شعب آخر مستعينين بكل ما في العالم من قوى الظلم والعدوان والشر ، ويعلمون علم اليقين أن سرقتهم لا دوام لها ولا نجاة لهم بها إلا إذا قضوا على الوجود البشري والمادي والمعنوي لهذا الشعب في هذا الوطن مؤمنين إيمانا مطلقا أن وجوده ينفي وجودهم ، وأن لا وسيلة للتعايش بين الوجودين النقيضين ، وأن وجودهم المسلح بكل صنوف القوة الذاتية والغيرية هو الذي يجب أن يقهر الوجود الفلسطيني ويزيله ، ولإخفاق قهره وإزالته حتى الآن فلا ضير من مهادنته مؤقتا سيرا على طريق الهدف النهائي : القهر والإزالة . وعلى هذا الطريق جاء اتفاق أوسلو في 1993 ، وجاءت كل الحروب التي تلته مع الفلسطينيين خاصة في غزة ، وصنوف القتل والتدمير والاستيطان في القدس والضفة وفي الداخل الفلسطيني . وجاء قانون القومية الإسرائيلي الذي يقصر حق تقرير المصير في فلسطين على اليهود ويستثني الفلسطينيين . ولا يختلف الإسرائيليون حول حقيقة صراعهم مع الفلسطينيين إلا في الأسلوب مراوحة بين القسوة واللين أما الهدف الكلي فواحد : كينونة فلسطين خالصة لهم بلا فلسطينيين . ومن هنا يجمعون على أنه لا دولة بين النهر والبحر سوى إسرائيل ، ومؤقتا ، فلنمنح الفلسطينيين حكما ذاتيا دون سيادة على الأرض ودون أمن وطني يسيطرون فيه على حدود تخصهم وحدهم ودون جيش وطني . كل الأمن في قبضة إسرائيل ، وللفلسطينيين مؤقتا تولي شئونهم اليومية التي لا تريد إسرائيل ثقل المسئولية عنها . وجدد نتنياهو المقترب من رئاسة الوزراء المجاهرة بالموقف الإسرائيلي الثابت في حديثه مع الإذاعة العامة الأميركية ، فبين أن السلام الذي يريده مع الفلسطينيين قوامه " منحهم صلاحيات لحكم أنفسهم دون سيادة ، ومع وجود الأمن في يد إسرائيل . " . ويغمض نتنياهو عينيه ووعيه مثل أكثرية الإسرائيليين الغالبة عن حقائق الواقع الصلبة بين النهر والبحر ، وأكبر هذه الحقائق وأفعلها في المآلات المستقبلية لهذا الصراع تفوق عدد الفلسطينيين على عدد اليهود بحوالي مليوني نفس ، ويغره مع مستوطنيه قوة إسرائيل العسكرية والاقتصادية ، والمساندة الأميركية والأوروبية المطلقة لها ، وتخلي أكثر الأنظمة العربية عن الفلسطينيين وتحالفها مع إسرائيل ، وغياب قيادة سياسية فلسطينية توحد قوى الشعب الفلسطيني داخليا وخارجيا . وفي جو إغماض العينيين والوعي ، يندفع صوب تطبيعات جديدة مع بقية الدول العربية، وهدفه الأول والأكبر في بداية رئاسته إخراج تطبيع إسرائيل مع النظام السعودي من السرية إلى العلن والرسمية ، وهو يقيني العلم أن اشتراط النظام لعلنية التطبيع ورسميته بحل القضية الفلسطينية ليس سوى نفاق مؤقت ، وأن النظام يوشك أن يتجاوزه ، وبوادر العلنية ظهرت في يوليو المنصرم حين سمح للطيران الإسرائيلي بعبور أجواء بلاد الحرمين في طريقه إلى آسيا . وحديثه منذ يومين إلى قناة " العربية الإنجليزية " تمهيد متفق عليه لهذا التطبيع ، وفيه دعا أميركا إلى إعادة توكيد التزامها تجاه الرياض ! هل تخلت أميركا عن هذا الالتزام القديم ؟! لم تتخلَ عنه يوما ، وإني لفي رثاء لمن يحسبون التظاهر بالخصام بينها وبين النظام السعودي خصاما ، بل عداء حقيقيا وقطيعة نهائية ، ويعدون القمم العربية الصينية الثلاث في الرياض برهانا فاصلا على العداء والقطيعة بين الطرفين . ونتنياهو يعلم هذا ، ودعوته لأميركا لتجديد التزامها تجاه الرياض مخادعة متفق عليها مع النظام السعودي لإيهام شعب بلاد الحرمين أن إسرائيل تحب الخير لبلاده ، وتستحق التطبيع معها إثابة لها على هذا الحب . ولا حل لصراع إسرائيل الوجودي مع الفلسطينيين بتخطيهم وتجاهل حقيقتهم الوطنية السيادية وحقهم في تقرير مصيرهم في وطنهم الذي جددت الاعتراف به هذه الأيام 168 دولة في الأمم المتحدة بأغلبية شبه كاملة . والشعب الفلسطيني ليس بالشعب الذي يسهل تخطيه وتجاهله ، وهو موقن أن الشعوب العربية والإسلامية على خلاف أنظمتها تؤمن إيمانا دينيا وقوميا أن فلسطين لها مثلما هي للشعب الفلسطيني ، وما بان من هذا الإيمان في مونديال قطر أفصح وأقوى بيان له . ولن يواجه الشعب الفلسطيني تنكر إسرائيل المطلق لحقوقه الوطنية باليأس والاستسلام ، وفي طردها من غزة بالسلاح منذ 17 عاما عبرة لها لو كانت ممن يجيدون الاعتبار ، والضفة الآن تركض على درب غزة ، وكثرة كتائبها المسلحة آية ساطعة على هذا الركض ، وفي استطلاع رأي جديد أجراه خبير الاستطلاع خليل الشقاقي والمركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية أيد 72 % من الفلسطينيين في الضفة تكوين مزيد من الكتائب المسلحة على مثال عرين الأسود . وفي الداخل الفلسطيني غضب واستياء من تمادي التطرف والعدوانية الإسرائيليين ، وستكون إسرائيل حتما في هذه الحال : غزة في ظهرها ، والضفة في صدرها ، وفلسطينيو الداخل المحتل في قلبها . وللفلسطينيين عبرة إيجابية تفاؤلية ولها عبرة سلبية تشاؤمية في ما انتهى إليه الصراع الذي دام 300 عام في جنوب أفريقيا بين السود أهل البلاد الأصليين وبين البيض المستوطنين العنصريين . زالت دولة الحكم العنصري الأبيض ، وسادت الأغلبية السوداء التي قبلت المستوطنين العنصريين رغم ماضيهم الإجرامي الأسود مواطنين مساويين للسود في الحقوق السياسة التي تحسمها الانتخابات وفق نظام صوت لكل مواطن ، وفي الحقوق المدنية التي تحكمها وتحفظها قوانين محددة دستوريا . و نرجح أن مصير الإسرائيليين في فلسطين لن يكون في سلامة مصير البيض في جنوب أفريقيا لتفوقهم في الإجرام عليهم . البيض ما كانوا يطردون السود من بلادهم مثلما فعل الإسرائيليون مع الفلسطينيين ، وجمعتهم المسيحية مع أكثريتهم ، ولا شيء يجمع الإسرائيليين مع الفلسطينيين والأمة العربية والإسلامية ، وسجلهم مع الجميع عدواني دموي ، وفي كل يوم يضيفون إليه جديدا من العدوانية والدموية . إنهم شجرة زقوم كريهة خبيثة لا مَعْدى عن استئصالها من جغرافية المنطقة وتاريخها ومستقبلها ، وهذا هو مصيرها عاجلا أو آجلا ، وما أعدله مصيراً !