الإعلام السوري … من عوامل الجلطة
لا يمكن تجاهل عشرات الفيديوهات التي قدمها التلفزيون السوري (تلفزيون الواقع). يمكن اختيار عناوين عديدة لها لكن العنوان الأنسب هو الإمعان في إذلال المواطن السوري، بمعنى أنه لا يوجد سقف أعلى لهذا الإذلال. يكفي أن أحكي عن فيديو واحد فبقية الفيديوهات الكثيرة صورة طبق الأصل عنه. الفيديو يبدأ بمذيعه جميلة تتغندر في شوارع شعبية في دمشق (أو مدن أخرى) أنيقة جدا، شعرها الجميل ينسدل حتى خصرها وهي تحمل الميكروفون.
هل تحب «المقلوبة»
لا أحد يعرف سبب فرط الفرح في صوتها، صوت متفائل فرِح لا ينقصه إلا الغناء، وتحديدا أغنية «افرح يا قلبي». تختار المذيعة رجلا تجاوز الستين. ربما كان في السبعين. من النظرة الأولى يبدو يائسا، ملامح وجهه مطفأة كئيبة إلى أبعد الحدود. تنقض المذيعة الجميلة عليه وتسأله ما هي أكلته المفضلة؟ الرجل لا يرد لكن ملامح وجهه الذابلة تأخذ على عاتقها التعبير عن هول «التعتير» والفقر والذل الذي يعيشه فيتحول وجهه إلى عنوان: البطاقة الذكية، تعتقد المذيعة أنها تتذاكى عليه وتساعده في أن يقول ما هي أكلته المفضلة فتحكي بصوت مرح: مثلا هل تحب الشاكرية أم المقلوبة أم ورق العنب؟ وتضحك بغنج وهي تقول: أنا أحب ورق العنب وأنت؟ تزداد تجاعيد وجه الرجل عمقا ويبدو أنه ينظر إلى الذهول أو المستحيل. المذيعة الفذة لا ترى بؤس الرجل وإحساسه بالإهانة، خاصة أن ملايين المشاهدين يرونه. تقول له: حسنا سأعزمك على طبخة شاكرية (رغم أنه بدا يفضل ورق العنب). من فرط القهر المزمن والخوف المزمن والذل المزمن لا يجيب الرجل.
يتجعد وجهه من الألم والذل «يبطرم» بكلمتين (لا أفهمها) وتسقط دموعه رغما عنه، فما كان من المذيعة الجميلة عديمة الإحساس إلى أن احتضنته وغمرت صفحة وجهه بشعرها الشلال! يا للمكافأة فرجل في السبعين لا يحلم أن تحتضنه فجأة شابة جميلة شعرها شلال من الإغواء وتتحدث إليه كأنه طفل صغير وقد تغيرت نبرة صوتها وهي تقول: ليه أنت حزين؟ لا تحزن؟ كلنا مع بعضنا؟ كلنا نحب بعضنا!!! كلنا نحب بعضنا! وما الغاية أن تتصدقي أنت وأسيادك على رجل برغيف الخبز أو البطاقة الذكية بأن تقدموا له وجبة واحدة من طعام فيه لحم ورز ولبن، أي طبخة شاكرية تكلف أكثر من راتب ولمرة واحدة فقط! كيف بإمكانك أن تتعامي عن هول الذل الذي يحسه ثم تربتين على كتفه كأنه طفل صغير أضاع لعبته؟ هل من إذلال أكبر من هذا؟ قمة الذل أن تقدم لمواطن سوري يعيش قمة الفقر والذل والجوع معتمدا على (بالخبز وحده يحيا الإنسان) طابور الخبز والبطاقة الذكية اللذين ألفت أمعاؤه طعم الخبز المعجون بالذل ونسي طوال سنوات طويلة طعم اللحم والخضار والفاكهة والحلوى!! دعوه، دعوهم وشأنهم. ما الغاية أن تقدموا لهم وجبة وحيدة هي حلم آمنوا أنه لن يتحقق؟ ما الغاية أن تتصدقوا عليهم بطبخة فيها لحم (والراتب يشتري كيلو ونصف الكيلو من اللحم)! المذيعة الغندورة التي لا نعرف لماذا صوتها يصدح فرحا، تنتقل إلى امرأة فقيرة ذليلة وتحكي معها السيناريو نفسه وتدعوها إلى أن تتصدق عليها بطبخة هي الحلم للأم وأولادها ولمرة واحدة فقط!
الذل الأكبر أن الملايين يشاهدون مسرحيات وفيديوهات الذل بل الإمعان في الذل، ماذا ستقدم وجبة شهية واحدة لشعب أكثر من 85 في المئة منه يعيش على الخبز ونسي طعم اللحم والسمك والفاكهة والخضار، شعب يعيش في فائض العتمة على ضوء الشمعة أو اللدات التي تؤذي شبكية العيون وتحدث فيها حروقا (مثل لحام الكهرباء)، ويأكلون خبزا، والترف في البطاطا حيث صار سعر كيلو البطاطا أربعة آلاف ليرة (هي بطاطا مدعومة أي سيزيد سعرها حين إلغاء الدعم). مشكلة الإعلام السوري أنه يحتقر ليس فقط الشعب السوري بل المشاهدين كلهم وفي كل دول العالم إذ أنه لا يبالي بردود فعل الناس وبالاستهجان لهذا الأسلوب في الإعلام الموغل في إذلال الناس. إنه لا يبالي هل صدقوه الناس أم لم يصدقوا. هو مثل امرأة لا تبالي بسمعتها، ما يهمه أنه يقدم برامج يعتقد أنها ظريفة وإنسانية وأن بعض الحمقى يصدقونها ويرونها تصرفا لطيفا وإنسانيا. حتى قبل الثورة السورية أي عام 2011 كان التلفزيون السوري يقدم برامج ألعاب ومسابقات وبربح ضئيل، لكن الناس تتوق للقليل من الفرح فكان البعض يشارك في هذه المسابقات، ويا للهول! إحدى المسابقات كانت عبارة عن (جاطات) قصعات مملوءة بالطحين وثمة ليرة سورية معدنية واحدة في قلب الطحين (كانت الليرة السورية المعدنية موجودة) وكان المطلوب من المتسابق أن يشبك يديه خلف ظهره ويبحث بفمه عن الليرة السورية في كومة الطحين. لا يمكنني وصف الوجوه المعفرة بالطحين، ولا نوبات السعال والعطاس، ولا تمايل جذع المتسابق عساه بقدرة قادر أن يتمكن من التقاط الليرة من قلب الطحين بفمه، وإذا نجح أحدهم تكون الجائزة مخجلة بقيمتها الهزيلة.
ترى من يبتكر تلك الألعاب؟ ألا يرى كم هي ذليلة وتجعل من المواطن نوعا من القراقوز؟ ومن ينسى المذيعة الحسناء التي كانت تقفز فوق الجثث في إحدى المجازر ورأت طفلة بعمر ثلاث سنوات ساكنة في الذهول، تستند على جثة أمها فسألتها المذيعة: حبيبتي هل هي الماما؟ اتسعت عينا الطفلة ولم تجب. هو الهول وهو الذهول وهو الذل. هذا هو تماما الإعلام السوري، إعلام الصمود والتصدي والبطاقة الذكية وفرط العتمة والجوع والخوف لدرجة الموت، لكن كل ذلك بسبب «مؤامرة خارجية» أبدية وبسبب «الخونة وأعداء الشعب»!!!!
كيف أنسى رقصات الولاء الإلزامية في مناسبات عديدة في سوريا (8 آذار والحركة التصحيحية الخ) حين كان الاحتفال الضخم يعقد في ساحة المشفى الوطني في اللاذقية فيحضر قائد الشرطة وأمين حزب البعث والمحافظ وغيرهم من الشخصيات ويكون ملك الاحتفال قارع الطبل العملاق بقطر ثلاثة أمتار. وكان جميع الأطباء والممرضات والعاملين في المشفى يشاركون في الدبك والنخ والرقص حتى أن مرضى القلبية والنساء حديثات الولادة كانوا يدبكون وكنت أتفرج مصعوقة: كيف يدبك مرضى القلب! ويا خوفي على النساء حديثات الولادة من انقلاب في الرحم. وحين عبرت عن رأيي بصوت عال أنذرني أحد المسؤولين أنه سيتغاضى عنا قلتها هذه المرة. ما قلته خطير وخيانة!!!
خدمة الوطن
لن أنسى يوم كنت في العيادة العينية في المشفى الوطني وكان تدفق النازحين من حلب وجوارها كبيرا إلى اللاذقية، وكنت أفحص يوميا حوالي مئة مريض معظمهم من النازحين عندما اقتحم الحشد شاب أنيق فقلت له: رجاء قف بالدور، فقال لي: أنا لست مريضا بل صحافيا رجاء فقط سأسالك سؤالا واحدا: من الأطباء الذين يعملون لخدمة الوطن والأطباء الذين لا يعملون لخدمة الوطن؟! لم أرد على الصحافي الذي أرادني أن أصير مخبرة وكاتبة تقارير على زملائي. أخيرا من عوامل الجلطة القلبية والدماغية الإعلام السوري. احتاطوا بتناول أدوية مميعة للدم، وأدوية مهدئة للأعصاب إذا قررتم حضور فيديوهات وبرامج الإعلام السوري، فالوقاية خير من العلاج.
وسوم: العدد 1011