خيانة الأحياء للأحياء
خيانة الأحياء للموتى هي جزء من الحياة اليومية، إنها أحد أكثر أشكال الخيانة سهولة، فالموتى لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، أو هم غير معنيين بالمسألة لأنهم خرجوا من الزمن. وخيانة الموتى لها مراتب متعددة، تبدأ بالشخصي كأن يتم الإطاحة بوصية إنسان يُحتضر، وتصل إلى العام، كأن تجري خيانة المبادئ باسم واضعيها، وعبر إخضاعها لتأويلات شتى، كما جرى مع كبار المفكرين أو مع القادة التاريخيين. ياسر عرفات تمت خيانة قضيته عندما كان يحتضر في باريس، كما أطيح بمبادئ ثورة 23 يوليو لحظة موت قائدها. كأن الموت يُخرج مكبوت الأحياء ويكشف أعماقهم النفسية ورغباتهم الدفينة.
قد يقال إن هناك أسباباً عديدة لهذه الخيانة، أهمها غياب المؤسسات وتفرد الزعماء، وهذا صحيح في حالتي عرفات وعبد الناصر، غير أن الخيانة تشير أيضاً إلى انقلاب الزمن وتغير الأحوال، وهما علامتان يحار المرء في كيفية التأقلم معهما. أما خيانة الأحياء للأحياء فهي المسألة، لأنها تطرح علامات استفهام حول المعاني والقيم والأخلاق.
ولعل أشد أنواع الخيانة ألماً، هو حين يكون الإنسان غائباً أو مغيباً خلف قضبان السجون، فيجري التعامل معه كأنه ليس موجوداً، وتتبلور الخيانة في النسيان والإهمال، عبر متابعة أنماط الحياة نفسها ودون شعور الخائن بوطأة خيانته.
هذا ما نشهده في أكثر من مكان:
ففي لبنان تتم خيانة مخطوفي الحرب الأهلية ببرودة أعصاب استثنائية يملكها قادة ميليشيات الحرب الأهلية، الذين يحكمون البلد.
وفي سوريا، يتم نسيان ألوف السجناء والمغيبين، وسط تراكم المآسي على السوريات والسوريين.
أما في فلسطين فالمسألة مختلفة وأكثر إيلاماً ووحشية.
ما معنى أن يقضي كريم يونس 40 عاماً في الأسر الإسرائيلي، بينما تستمر اللجنة المركزية لحركة فتح، وهو عضو فيها، في سياسة التنسيق الأمني مع الاحتلال؟ والحال نفسه ينطبق على مروان البرغوثي، وعلى ألوف الأسرى الذين أعادوا صناعة الحياة وسط شروط الأسر، وأقاموا عالماً موازياً مليئاً بالعمل والنشاط الفكري والسياسي والثقافي المدهش.
هل تمت خيانة الأسرى؟
الأسرى ليسوا أفراداً فقط، بل هم حالة سياسية ونضالية، وعندما يرتفع السؤال حول خيانتنا لهم، فإنه يتخذ حجم خيانة فلسطين.
هذا هو السؤال الذي يطرحه الإفراج عن كريم يونس على الضمير الفلسطيني والعربي. اعتقل الفدائي كريم يونس وهو في العشرينيات من عمره من على مقاعد الدراسة في جامعة بن غوريون في بئر السبع، حيث كان يتابع تخصصه في الهندسة الميكانيكية، وخرج من السجن. بعد أربعين عاماً، أي بعد انتهاء مدة محكوميته كاملة، ليكتشف أن وطنه لا يزال سجناً كبيراً، وأن بعض الفلسطينيين من رفاقه السابقين يلعبون دور الشريك الصغير في حراسة أبواب هذا السجن.
لا يحق لأحد أن يسأل كريم يونس عن مشاعره بعد خروجه من السجن. بالمناسبة، فكريم يونس لم يتحرر بل أُطلق سراحه، لأن التحرر يعني كسر قرار الاحتلال، بينما لم يجد الأسير في رفاقه من استطاع كسر هذا القرار.
يحق لأفراد العائلة ورفاقه في الأسر أن يفرحوا، كما يحق للفدائيين الذين قاتلوا خلال أعوام الجفاف الفلسطيني الطويلة، أن يروا في كريم يونس رفيقاً ومعلماً. هؤلاء وحدهم يحق لهم الكلام في حضرة أربعين عاماً من عمر لم يضع في العتمة، بل كان ضوءاً يشق الطريق للذين حافظوا على العهد، وسُفكت دماؤهم في جنين ونابلس والقدس ومئات القرى والدساكر.
يحق لكريم يونس أن يسأل ماذا فعلنا خلال العقود الأربعة الطويلة الماضية.
هو وأخواته وإخوانه الأسرى ومعهم فدائيو أعوام الجفاف الفلسطينية يملكون وحدهم حق طرح الأسئلة.
تعالوا نستمع إلى أسئلتهم، شرط أن لا تكون أجوبتنا مجرد تبريرات كاذبة.
تعالوا إلى كلمة الحق، كي نقول إن ثمن الأخطاء والخطايا التي ارتكبت باسم فلسطين كانت دماً وألماً وعتمة.
أسأل نفسي ماذا لو عاد الأسرى إلى رام الله؟ يعودون كلهم ودفعة واحدة كعاصفة تذكّر الجميع بأن أبناء فتح هم قوات العاصفة، وبأن لا أحد يستطيع اعتقال العاصفة أو إخمادها.
من يستطيع أن يقف في وجه العاصفة؟
من هم هؤلاء الذين تناسوا أن منظمة التحرير هي مظلة سياسية للفدائيين، واعتقدوا أن لعبة التسويات مع الكيان العنصري الاحتلالي الإسرائيلي سوف توصل إلى غير ما وصلت إليه من خنوع وهوان واستسلام يصل إلى حد تطبيع الاحتلال؟ وما علاقة هؤلاء بالمقاومين والأسرى والشهداء؟
انتهت اللعبة. التسوية مع الاحتلال لم تكن ممكنة منذ البداية، أما اليوم، ومع دولة احتلال نزعت كل أقنعتها، وتخلت عن خطاب سلام كاذب ادعته، فإن وهم التسوية لم يعد هو الآخر ممكناً.
باعة الوهم أفلسوا، كما أن حلفاءهم في الأنظمة العربية الاستبدادية تحولوا إلى ممسحة للاحتلال الإسرائيلي.
كريم يونس يخرج بعد أربعين عاماً من الأسر ليكشف ويكتشف أن الفلسطينيات والفلسطينيين هم أمام عتبة بداية جديدة.
لقد عادوا إلى الأول.
عادوا إلى البداية التي تبدأ كل يوم.
عادوا كي يؤسسوا باباً جديداً للشمس.
فللشمس أبواب لا تحصى، لكن لا يستطيع أن يدق على باب الشمس إلا من حمل الأمانة حتى آخر قطرات روحه.
ففلسطين هي أرض البدايات، إنها اليوم بوابة الروح العربية التي تنفض عنها الأوهام، وتنتظر الأيدي التي ستقرع أبوابها.
لكريم يونس ولبلدته عارة التي استقبلته كما يليق بأبطال الملاحم، تحية حب. له مجد الصبر والصمود، ولأمثاله تصير الكلمات أرضاً تليق بأقدامهم التي رسمت أفق الحرية.
وسوم: العدد 1014