بذخ الاحتفالات في سوريا وكوكبة من الشهداء
يتفوق الوضع في سوريا على مسرح اللامعقول، فثمة هياج من البهجة والفرح عند فئة من السوريين ( تشكل حوالي عشرة في المئة ) للاحتفال بعيد الميلاد ورأس السنة . وعشرات المطاعم والفنادق تقيم حفلات باذخة ويحيي الكثير من الحفلات نجوم من لبنان سيتركون لبنان ليحيوا حفلات في سوريا .
الأحبة السوريون الذين أتواصل معهم دوماً مُروعين وفي حالة صدمة قالوا لي سعر بطاقة الحفلة مليون ليرة للشخص الواحد في المطاعم الفخمة، وقد ينخفض السعر إلى 600 ألف ليرة سورية للشخص الواحد في مقاهي ومطاعم أقل فخامة.
يُمكنني أن أكتب صفحات عن القهر الذي يحسه السوريون وأكثر من 85 في المئة منهم تحت خط الفقر ( شعب الخبز الرديء وشعب الطابور الذي يعيش في فرط العتمة والمرض) وهم يخبرونني بصوت متقطع من الغضب والقهر عن تلك الحفلات الباذخة، طبعاً ستكون هناك فرط إنارة في المطاعم، كذلك تدفئة ممتازة فالفرح يغمر سوريا، ليس فرحا بنجاح أو انتصار أو فرح بحب تكلل بالزواج أو فرح بعودة الأحبة الغائبين، هو فرح ديدان العلق وهي تمص الدماء بشراهة دون أن تشبع.
ومن كثر ما سمعت الأحبة السوريين في الداخل ( والبعض في الخارج ) مُروعين من هذه الاحتفالات الباذخة ، كدت أنسى أن سوريا بلد الشهداء ، وبلد المجازر والموت بكل أشكاله وتنوعاته، وأن أكثر من ثلث الشعب السوري صار نازحاً في بلاد الله .
كدت أنسى وأنا أمشي في شوارع اللاذقية مئات الصور المُلصقة على الجدران في المدينة والأزقة كلها لشبان بعمر الورود ارتقوا إلى الشهادة وصاروا الشهداء الأبطال ، كدت أنسى الصفحة الكبيرة الأسبوعية في جريدة “الثورة السورية” صفحة فيها وجوه أكثر من أربعين شاباً ماتوا للدفاع عن الوطن وتحت كل صورة سطران لأم أو أب الشاب الشهيد يقولان كم يحسان بالفخر والفرح أن ابنهما استشهد ، والغريب أن آباء وأمهات الأربعين شهيداً – وكل من منطقة ومدينة وقرية – كلهم كانوا يقولون العبارة نفسها دون إضافة حرف واحد.
جنازات الشهداء
كدت أنسى مواكب جنازات الشهداء تعرضها شاشات التلفزيونات السورية تحت شعار (كوكبة من الشهداء) يكاد لا يمر يوم إلا ونرى طابوراً من التوابيت يحملها زملاء مجندون والمُذيع يُعلق بفخر أن هذه جنازة لكوكبة من الشهداء، وكدت أنسى البرامج التلفزيونية التي تعرض مقابلات مع أهالي الشهداء وهم يزغردون فرحاً لموت فلذات أكبادهم في سبيل الوطن.
كدت أنسى يوم توجهت إلى شركة الطيران السورية في اللاذقية كي أسافر إلى دمشق ( عام 2013 ) وطلبت أن أسافر صباحاً قالت لي الموظفة في شركة الطيران السورية : يستحيل أن تسافري صباحاً فكل الرحلات الصباحية محجوزة لنقل جثامين الشهداء إلى قراهم أو مدنهم، شعرت بالذعر وأنا أتخيل طائرة كل ركابها جثامين شباب سوريين ماتوا أو على الأغلب بقايا جثامين .
قرية الدريكيش
كدت أنسى لما زرت قرية الدريكيش الساحرة الجمال مع بعض الأصدقاء لزيارة صديق كم استوقفني بإعجاب منظر صرح رخامي عملاق محفور عليه بالأسود اللماع ما اعتقدته شعراً وقلت لأصدقائي أظن أنهم اختاروا شعراً للمتنبي لأن السطر كان مشطوراً نصفين، ضحك الأصدقاء من سذاجتي وقالوا لي: إقتربي من النصب الرخامي، وما اعتقدته شعراً كان أسماء كل الشبان الذين ماتوا في الدريكيش وبعض القرى المجاورة، حشد من الأسماء مرصوصة قرب بعضها ولا أعرف عبقرية من اختار أن يكتبها كما لو كانت أبيات شعر أكثر من 600 اسم لشباب سوريين حُفرت أسماؤهم على نصب رخامي عملاق يستقبلك وأنت تدخل قرية الدريكيش، وبالطبع هناك من لم يكن لهم الحظ في كتابة اسمه.
وكدت أنسى يوم رافقت صديقة لي مات ابنها في المعتقل والبعض قال لها: أنت محظوظة فقد استلمت جثة ابنك، كان عيد الأم وكانت منهارة وحملت بعض الورود وقصدنا المقبرة ، ويا لهول ما رأيت !!
هو الهول ولا شيء سوى الهول كان الاحتفال بعيد الأم في المقبرة مئات الأمهات المفجوعات بأولادهن ساجدات وقد جفت دموعهن وأخذن يناشدن الأحبة الذين ماتوا بكل طرق الموت في سوريا .
وكدت أنسى الشاحنة العملاقة التي عبرت شارع الجمهورية وشوارع أخرى في اللاذقية الساعة السادسة مساء وكانت متخمة بحمولتها من جثث عارية تماماً وغير مُغطاة لإرهابيين ، جثث تبدو للوهلة الأولى خرافاً مذبوحة، حتى أن قلبي كاد يتوقف من منظر يد مدلاة من الشاحنة تكاد تسقط ، وصوت سائق الشاحنة يدوي في مكبر الصوت : وسع طريق يا حيوان . لكن لا أنسى أبداً تلك النظرة في عيني طفل عمره ست سنوات وقد تخثر الكلام في حنجرته يريد أن يسأل والده ما هذا !!! هؤلاء كانت جثث إرهابيين وعلى جميع أهل اللاذقية أن يبتهجوا بمنظر تلك الجثث المكشوفة العارية ليفرحوا أنه تم قتل الإرهابيين .
الأطراف الاصطناعية
من كثرة ما سمعت البارحة صراخ السوريين المتألمين وهم يقولون لي: معقول هؤلاء عديمو الضمير والإحساس سوف يحضرون حفلات سعر البطاقة للشخص الواحد مليون ليرة ، تذكرت تلك الشاحنة المُحملة حتى التخمة بمختلف أنواع الأطراف الاصطناعية قاصدة المشفى العسكري في اللاذقية الذي تحول ( بعد دخول روسيا إلى سوريا) إلى مشفى عملاق لتركيب الأطراف الاصطناعية للشباب الذين فقدوا يداً أو رجلاً أو أكثر . فيما تحولت مشفى الأسد الجامعي إلى مشفى عسكري بقيادة روسيا. كدت أنسى عدد الشبان الشابات الذين انتحروا قهراً من الفقر والظلم، كدت أنسى آلاف الأطفال السوريين المتسولين بأسمال بالية غالباً حفاة وشعر مُلبد من القذارة .
وبما أن صالات الأفراح الفخمة المزودة بالكهرباء والتدفئة في المطاعم الفخمة ليتهم يطفئون النور لدقائق ويعرضون مشاهد لكوكبة من الشهداء أو للشاحنة المحملة بجثث إرهابيين أو بطابور السوريين الذين يهدرون يومهم بانتظار الخبز أو راتب لا يساوي شيئاً . ليتهم يعرضون لقطة واحدة لأكثر من أربعين طفلاً لا تزيد أعمارهم عن السنتين أو ثلاث سنوات ملفوفين بكفن أبيض قذر ومربوطي الأيدي والأرجل وبقايا أحلام ترفرف على أهدابهم، هم أطفال مجزرة الحولة التي فرح بعض السفلة أنهم ماتوا لإيمانهم أنهم حين سيكبرون سيكونون إرهابيين كأهاليهم .
ليت العرض ينتهي بسقوط الشابة ندى في حفرة مجرور .
هؤلاء ديدان العلق احتفلوا ورقصوا على أرض سوريا المُشبعة بدماء أبنائها.
وسوم: العدد 1014