إذا كان الرخاء يشجع على التبذير فإن الغلاء يمنعه
بداية أنبه إلى أن هذا المقال لا يقر الغلاء ،ولا يمدحه بل ينكره، ويذمّه لأنه مما يتعوذ المؤمنون بالله تعالى منه كتعوذهم من كل مكروه كالوباء ،والجفاف ... وغيرهما . والقصد من الجمع بين الغلاء والرخاء في عنوان هذا المقال هو التنبيه إلى آفة التبذير التي تكون في الرخاء ،وهو يشجع عليها بينما تقل أو لنقل تزول مع الغلاء.
والملاحظ أن الناس بعد حملة الغلاء التي داهمتهم مؤخرا ، وشهدتها أسواق مختلف السلع عموما ، و أسواق الخضروات والفواكه على وجه الخصوص، صاروا يقتصدون أشد الاقتصاد في اقتناء ما يحتاجونه منها ، وقد كانوا من قبل لا يبالون بالاقتصاد بل لا يسألون عن أسعارها ، ويستزيدون من مكيالها ، ويتناولون منها ما يتناولونه ثم يفضل عنهم منها ما يفضل، فيصيب بعضه التلف ، ثم يلقى في القمامة دون حسرة عليه ،لأن الرخاء سائد ، والمطلوب منها موفور وفرة كثرة ، وأسعارها في المتناول .
ومع حلول نقمة الغلاء محل نعمة الرخاء، أخذ الناس يحرصون على الإلحاح في السؤال عن أسعار الفواكه والخضروات ، وتفغر أفواههم اندهاشا من ارتفاعها ارتفاعا غير مألوف حين يجيبهم الباعة ، ويستنكرون ذلك أشد الاستنكار ، ويحوقلون وهم ممتعضون ،وساخطون أشد السخط ، ويقتنون الأقل القليل منها إشفاقا على جيوبهم ، ولا يفضل منها عندهم ما يلقى في القمامة ، وفي هذا عبرة لمن يعتبرون ممن كانوا لا يبالون بآفة التبذير من قبل ،وقد وصف الله تعالى من يبذرون أسوأ وصف فقال جل من قائل : (( ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا )) ، ففي هذه الآية الكريمة تشبيه لمعصية التبذيرعند الإنسان بمعصية الشيطان الرجيم الذي جحد نعمة ربه عليه ، وكذلك أمر الذي يجحد نعمة ربه في الانفاق والاستهلاك، فلا يقتصد كما أمره سبحانه وتعالى، فيتوسط فيهما بين إسراف وتقتير مصداقا لقوله عز من قائل : (( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما )) ، وهو وصف وصف به عباده المؤمنين الشاكرين نعمه ، ونسبهم إليه فسماهم عباد الرحمان ، وهم نفيض المبذرين إخوان الشيطان .
ولقد جعل الغلاء الناس يلتفتون إلى ما ذوى من فاكهة وخضر، فيسألون عن أسعارها ، ويقبلون عليها وقد كانوا من قبل لا يلقون إليها بالا بل كانت إذا ذوت عندهم في بيوتهم بعد نضرتها تشمئز منها نفوسهم، ويلقون بها في القمامة.
ولا شك أن الذي جعل نعمة الرخاء تتحول إلى نقمة الغلاء، هو كفرانها وجحودها وقد نبه الله تعالى إلى ذلك بقوله عز من قائل : (( ذلك بأن الله لم يك مغيّر نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم )) ، وعليه ،فإن حلول نقمة الغلاء محل نعمة الرخاء إنما استوجبتها معصية آفة التبذير. ولا يجب أن يغيب هذا عن أّذهان الناس ، فيردون نقمة الغلاء الحالة بهم سوء تدبير الحكومة فقط وهو حقيقة لا ينكرها أحد دون استحضار معصية آفة تبذيرهم يوم كان الرخاء سائدا .
وأخيرا نرجو أن نهتم مستقبلا إذا ما أنعم به علينا الله تعالى من نعمة الرخاء أن بحسن شكرها، وذلك بتفادي آفة التبذير التي هي حجود بتلك النعمة ، واستخفاف بها ، وقد وعد الله تعالى الشاكرين مزيدا من نعمه ، كما توعد من يجحدونها بعذاب ، فقال جل شأنه : (( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنّكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ))، وكفى بنقمة الغلاء عذابا .
وسوم: العدد 1021