الشجاعة
د. أحمد فؤاد شميس
إن المتتبع للتاريخ يجد أن من أعظم الطرق التي سلكتها الشعوب لتنال حريتها و تستعيد كرامته هي أن تترك زمن الدعة والراحة، وأن تتوجه إلى طريق نصال و نضال، و أزيز رصاص ، و شهادة و دماء ، فسورية تسجل بابطالها من افراد الجيش الحر ملاحم و معارك كبيرة ، و هي مقبلة على جولات شرسة ، مع عدو غادر ، لم يسجل التاريخ مثله بما فعل مع شعبه ، و قربت نهايته بإذنه تعالى .
وإن من أهم المعاني التي يجب على المسلم الأخذ بها وتربية نفسه عليها، هي التي تبعث في الروح التضحية، والاستعلاء على الشهوات، وحب الموت والشهادة في سبيل الله، والتطلع إلى معالي الأمور، والتنزه عن سفاسفها، والزهد في الدنيا. و إن من أهم الأخلاق التي ينبغي على المسلم التحلي بها، هو خلق كريم، نبيل الطبع، لا يتصف به إلا السادة، ويرغب عنه العبيد، هذا الخلق هو الشجاعة.
الشجاعة هي الصبر والثبات والإقدام على تحصيل الأمور النافعة ، و دفع الأمور السيئة ، وتكون في الأقوال والأفعال، والتغلب على رهبة الموقف .فالشجاعة من أعز أخلاق الإسلام، ساعدت المسلمين على الفتوح والسيادة في الأرض.
فالشجاعة من أسباب السعادة، فإن الله يشرح صدر الشجاع بشجاعته وإقدامه، وهذا معلوم لأن الهم والقلة والذلة وحقارة الحال تأتي من الجبن والهلع والفزع، وإن السعادة والانشراح والضحك والبسطة تأتي مع الشجاعة والإقدام وفرض الرأي وقول كلمة الحق التي علمها رسول الله أصحابه.و الشجاع محبب حتى إلى عدوه، والجبان مبغض حتى إلى أمه.
ولا تتصل الشجاعة بحجم البدن، ولا بشكل الإنسان، وليس لها علاقة بقوة البدن وضعفه، بل هي جمرة موجودة في القلب كامنة ، تتحول عند الشدائد إلى نار تشعل الجسم قتمده بقوة ربانية لا يخاف بعدها أحدا ، ينطلق إلى المعركة بإقدام و تمكن يقول كثير عزة:
ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابـه أسـد هصـور
و الشجاعة أبوابها كثيرة ، فلا يظن ظان أن الشجاعة تقتصر على القتال والنزال، بل إنها تمتد لتشمل قول كلمة الحق، والخطابة على المنابر بكلمة حق لا يهاب جهاز أمن و لا قلم رقيب ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإعلان الرأي ، و الوقوف أمام حاكم ظالم ، و طاغية مستبد ، و قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ) ، كما قال أيضا : (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)
الشجاعة سر بقاء البشر واستمرار الحياة وعمران الأرض. قال سيدنا أبو بكر الصديق لسيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنهما : احرص على الموت تُوهب لك الحياة. و قالت العرب : إن الشجاعة وقاية، والجبن مقتلة.
وكمال الشجاعة وزينتها أن تكون بإرشاد العقل، متزنة ومتوافقة مع الحكمة، وأن تعتمد على رأي حصيف ، هذا الرأي صدر من قائد متمكن و من أمير بطل ، مع تبصر وحسن حيلة وحذر وتيقظ، وخطة محكمة ومشورة مطلوبة ، و إلا كانت انتحاراً وتهوراً وسفهاً وإلقاءً باليد للتهلكة، وذلك مذموم كما يذم الجبن ، فالشجاعة خلق فاضل متوسط بين خلقين رذيلين هما الجبن والتهور .
وحتى نميز حقيقة الشجاعة، لا بد من معرفة ضدها، فالشجاعة ضدها الجبن، الذي يكون نتيجة تغلب المخاوف المرتقبة أو الحاصلة أمام الناظرين فيحجم الإنسان ولا يعود شجاعاً. فالجبن مرض خسيس، يورث المهالك، ويقعد بصاحبه عن معالي الأمور، ويرضيه بالأدنى، ويجعله قرين الذل، ورفيق الهوان. و الجبن جريمة كبرى وسيئة في الرجل. الجبان يموت في اليوم مائة مرة والشجاع يموت مرة واحدة، الجبان يتوهم كل شيء ضده .
الجبن دليل على ضعف القلب، وانطوائه على أمر يخاف الإنسان من إظهاره، ولذا حكى الله عن المنافقين فقال: " يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ " أي من خوفهم وهلعهم كلما سمعوا أي صوت يصدر يتخيلون أنه إنذار من عدو قادم عليهم .
والجبن والخور والعجز من أسوء ما يوصف به الرجال، وعن رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( شر ما في رجل شح هالع وجبن خالع) و كان من دعائه صلى الله عليه و سلم (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَال) .
ولذلك كله فالأنبياء هم أشجع الناس لأنهم أعلى الناس إيماناً، و أما نبينا فهو أكمل الخلق، خلقاً، وعلماً، وعملاً، وهو أشجعهم.
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ـ وهو من أبطال الأمة وشجعانها ـ قال: (إنا كنا إذا اشتد بنا البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله ، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله ، وهو أقربنا إلى العدو)
فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوْتِ فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ رَاجِعًا وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ: ((لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا)) رواه البخاري ومسلم.
وفي غزوة حنين، حينما انكشف المسلمون، وولى كثير من الصحابة عن رسول الله ، وأحاط به المشركون، إذا به يقف موقف الأسد الهزبر، ينادي بكل ثبات ورباطة جأش: ( انا بن العواتك من قريش أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) ،حتى عاد إليه أصحابه، والتفوا حوله، فتحولت الهزيمة إلى نصر مؤزر.
ومن أعجب ما ذكر في قصص الشجاعة أن شبيب بن يزيد الخارجي كان من أشجع الناس، فقد قاتل الحجاج وهزمه بستين رجلاً، وكان جيش الحجاج ثلاثة آلاف ثم تتبع الحجاج في كل غزوة، كان من شجاعته ينام على البغلة في المعركة وذلك من قوة قلبه.
قيل لعنترة: كيف تغلب الأبطال؟ قال: أبدأ بالجبان فأضربه فأقسمه قسمين، فإذا رأى الشجاعُ الجبانَ مقسوماً فرّ مني، وقيل له: كيف تنتصر على الناس؟ قال: بالصبر.
وبعد:إن الإسلام دين ودولة، وعبادة وقيادة، ومصحف وسيف، واعلم أن الدين بغير قوة نظرية محضة، والدين بغير قوة مجرد فكرة مضيئة قلّ ما يعطيها الناس اهتماماً كالحصن من غير جنود يكون عرضة للنهب والسلب والاحتلال.
عباد الله، لا يظن ظان أن الشجاعة أمر فطري، لا سبيل إلى اكتسابه، بل إن الأخلاق كلها يمكن أن تكتسب، وإلا لما رتب الله عليها ثواباً ولا عقاباً، وقد قال النبي : ((إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه))[1].
وهاهنا نذكر بعض الأسباب التي تعين على اكتساب الشجاعة وتنميتها:
أولاً: ترسيخ عقيدة القضاء والقدر، وإدراك أن الإنسان لا يصيبه إلا ما كتب الله له، ((وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف))، ومن علم ما قاله الله جل وعلا: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَـٰباً مُّؤَجَّلاً و قال تعالى : فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ "
ثانياً: التوكل الصادق على الله جل وعلا، وانظر إلى حال هود عليه السلام حينما واجه قومه كلهم، بدعوتهم إلى عباد الله سبحانه وتعالى، ومعرفته أنهم سيكذبوه، إذا به يقول: إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبّى وَرَبّكُمْ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبّى عَلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ [هود:56].
ثالثاً: الاقتناع بأن معظم مثيرات الجبن والخوف لا تعدو كونها أوهاماً لا حقيقة لها، فمن عرف حقيقة الخلق لم يخش إلا الله، وما تخافه من دون الله إنما هم أولياء الشيطان كما قال تعالى:إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، ومما يتصل بذلك استصغار شأن العدو، وأنه يخاف منك إن أنت أظهرت الشجاعة أمامه، واستبسلت في قتاله، وأظهرت حبك للموت ، قال تعالى: إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ [النساء:104].
رابعاً : الإعداد والتدريب العملي: كأنواع القتال والسلاح والرماية والسبق والرياضة والسباحة، وغيرها وهي جزء أصيل من منهج الإسلام في إعداد الرجال وإخراج الوهن والخوف من قلوبهم، قال حبيبنا الرسول صلى الله عليه و سلم : ( ألا إن القوة في الرمي )
خامسا :القدوة الحسنة والتمثل بالنبي في شجاعته، وقد بعث قدوة للناس في كل شيء، وكان أسرعهم إلى مكامن الخطر وصوت المنذر، وكان الصحابة يحتمون برسول الله إذا حمي الوطيس والتقى الشجعان.
سابعاً: قيام الليل وصف الأقدام بين يدي الكبير المتعال في جوف الليل البهيم، فإن شجرة الشجاعة تسقى بدموع السحر، وإذا طال التهجد أينعت ثمرته جهاداً وبطولة .
في الليل رهبان وعند جهادهم لعدوهم من أشـجع الشجعـان
فيا أيها الإخوة الأبطال إن مما يقوي القلب، ويشحذ الهمم ويربي في النفس الشجاعة، ما يراه الإنسان من البطولات التي يخطها إخواننا في أراضي الرباط في فلسطين وفي بورما و كشمير فقد امتدت معاركهم لسنوات و هم ثابتون ، و ما نراه من بطولات جيشنا الحر البطل ، تلك البطولات التي أزاحت وستزيح عن الأمة كابوس الرعب من العدو، وتدفعه دفعاً نحو العلياء، و الحرية نسأل الله أن يتقبل شهداءنا و يكتب لنا النصر المؤزر القريب .