كبّر أربعا على أمة يصير عندها الاستثناء مقدما على الأصل والوافد مقدما على الأصيل

لا يستطيع أحد في مجتمعنا المغربي أن ينكر سيادة انطباع عام، إن لم نقل طغيانه لدى الرأي العام ،مفاده أن قيمنا قد تغيرت تغييراغاية في السلبية ، وحلّت محلها قيم أخرى، إما بسبب انحرافها أو بسبب الوافد علينا من قيم الأغيارغير المناسبة لمجتمعاتنا العربية الإسلامية   .

ومعلوم أن القيم السائدة في المجتمعات ،تكون حسب ما يسودها من قناعات  تحكمها . ولمّا كانت القناعة  التي تحكم مجتمعاتنا العربية الإسلامية مصدرها الوحي قرآنا وسنة ، وهي قناعة  ليست من إنتاج أوضع بشري وهي عرضة للتحول باستمرار، في حين أن  القناعة التي صدرها  الوحي إنما صيغت صياغة راعت كل التحولات الطارئة على حياة البشر إلى قيام الساعة ، لهذا في  ثابتة على الدوام.

والدافع الذي جعلني أحرر هذا المقال، هو حدث بسيط في حد ذاته ، ولكنه في حقيقة الأم ينطوي على التعبير عن خلل طرأ على قيمنا ، الشيء الذي يهدد هويتنا تهديدا خطيرا في صميمها . وهذا الحدث وقع أول أمس، وأنا أمام مؤسسة تربوية كانت مركز امتحان إشهادي خاص بالسنة النهائية من السلك الإعدادي . وكنت رفقة أحد الأصدقاء القدامى جاء مرافقا لاابنه ، كما صاحبت ابنتي إلى مركز الامتحان . وهو رجل فاضل، ينتمي إلى الحقل التربوي، وقد  ترك  التدريس مضطرا ، ولمّا يبلغ سن التقاعد ، بسبب  ما يعرفه قطاع التربية من خلل  كبير لا  يمكن أن ينكره إلا جاحد أو مصر على عناد ، وعلى رأس ذلك الخلل، التدني الفظيع  لمستويات التحصيل الدراسي لدى الناشئة المتعلمة ، إلى جانب ظاهرة انسلاخها من قيمنا الأخلاقية بشكل ينذر بأسوأ العواقب مستقبلا  . وفجأة ،وقف شاب في العقد الثاني من عمره محييا أستاذه السابق . وبعد التحية مباشرة، بادره بسؤال أدهشني وهو يستفسره عمّا إذا كان المسؤولون عن تلك المؤسسة مركز الامتحان  ممن  يتساهلون مع الممتحنين ، وهو يقصد تساهلهم مع من يمارسون الغش ممن الممتحنين . ونظر إلي صديقي باستغراب ، وهو يراقب اندهاشي ،لأن ما وقع كان مرتبطا بحديث سابق  دلر بيننا عن الدافع الذي جعله يغادر عمله مضطرا قبل تقاعده . وبدوري بادرت ذلك الشاب بالقول  : ألم يكن أولى بك  يا بني أن تسأل عن مدى جدية، وصرامة مسؤولي هذه المؤسسة عوض السؤال عن تساهلهم مع الغش، فنظر الشاب إليّ  ممتعضا من تدخلي ، واستمر مخاطبا أستاذه السابق بما يفيد إصراره على  موقفه الذي لا شك أنه كان على قناعة تامة بصوابه . وهذا يعني دخول مجتمعنا مرحلة حلول الاستثناء السلبي محل الأصل الإيجابي ، وهو ما يعني التحول من  قيم إلى أخرى بسبب  ما وقع  من انحراف في قناعتنا من تغيير، ونحن مسؤولون عنه أو ما وافد علينا . وليس ما عبر عنه هذا الشاب سوى مظهرا من مظاهرغلبة السلوكات المنحرفة عندنا اليوم  على السلوكات السوية المنسجمة مع مرجعيتنا الإسلامية . أليست بعض الأصوات ترتفع اليوم عندنا دفاعا عن سلوك شاذ وافد علينا ،وتنتصر له، وهوما بات يعرف " بالمثلية " ، والذي لا تقره قيمنا الإسلامية، بينما هو مشروع عند العلمانية الغربية التي لا تكتفي بمماىسته في بلادها ، وإنما تصر إصرارا على تصديره إلينا، وفرضها علينا فرضا تحت شعار حرية الأجساد التي هي مما يسمى الحريات الفردية .

ولو أننا استعرضنا القيم الشاذة ،والمنحرفة الوافدة علينا، وهي غريبة عن قيمنا الإسلامية ،لوجدناها صارت عندنا أصلا ، بينما صارت قيمنا استثناء. ويطول بنا الحديث ،وتشعب ، إذا ما استعرضناها، ذلك أنه لا تخلو لحظة من حياتنا اليومية من ملامسة تلك القيم الشاذة لواقعنا المعيش ، ولقد طبعنا معها تطبيعا  بلغ حد التضبيع  بما لعبارة  من دلالة على الخضوع في ثقافتنا الشعبية .ولقد  كان أول من تنبه إلى خطورة الوافد علينا من قناعات غريبة عنا هو الجيل الذي عاصر الاحتلال الفرنسي البغيض لبلادنا ، وكان يعبرعن قلقه  الشديد من حلول الاستثناء الوافد  علينا محل أصيلنا ، لأن المحتل  كان قد جاء غازيا، ووراء غزوه ما وراءه من أهداف مبيتة  ، لكنه كان يموه عليها بما سماه حماية ، وما كانت حمايته المزعومة سوى إجهازا على قيما الإسلامية ،  وضربها في الصميم من أجل إلباسنا لبوس قيمه العلمانية قهرا. ومما كنا نسمعه من كلام آبائنا  من ذلك الجيل ،ونظنه محض لغو أوعبث كانوا يتسلون به فقط، وهو في الحقيقة معبر عن التغييرالطارىء على قيمنا التي زاحمتها قيم المحتل، قولهم الذي نورده بعاميتنا :  " هذا زمان ولات فيه  النعجة من الهامزين ، والسبع من الخايفي ... " وهم يقصدون  بذلك أن الطباع  قد تغيرت،  إلى حد انتقال الطباع الأصيل إلى طباع طارئة بحيث تصير النعاج جسورة ، وتصيرالأسود هيّابة .

ومع تراخي الزمن، صار ما كان يتندر به ذلك الجيل  ـ كما كنا نعتقد أو نظن ـ تندرا هادفا، وكانت موازين  قيمنا تنقلب بالفعل ، بحيث صار أصيلها مغمورا، ووافدها  مشهورا. وما زال الوافد يعمل فينا عمله حتى استفحل أمره واتسع فتقه على الرتق . ألم يعد الجاهل فينا يدّعي مرتبة العالم ، وهو يفاخر بجهله ، ويؤثر بذلك في السواد المخدوع ؟ ألم يعد  وجود الرجل غير المناسب في مكان لا يناسبه أمرا طبيعيا  ؟ ألم يعد إسناد المناصب، والمهام ،والمسؤوليات إلى غير أهلها أمرا مقبولا  مع ما في ذلك من استباحة لها ؟ ألم يحلّ التهاون ، والغش ، والتراخي في الواجب محل الجد ، والنزاهة ؟  ألم تعد الاستقامة  محلّ انتقاد ، والانحراف والاعوجاء محل مدح وإشادة ؟  ألم تعد الوضاعة مقدمة على الشرف ...؟  ولو شئنا الاستمرار في سرد هذه الثنائيات المتناقضة لطال بنا الحديث.

وعود على بدء،  أرى أن الشاب الذي عبرعن قناعته بضرورة إلقاء الحبل على الغارب أثناء مراقبة الامتحانات ،كان راسخ القانعة بأنه كان على صواب ،وأن الغش عنده هو الأصل ، وإنكاره، والتأفف منه هو الاستثاء .وهذا  يذكر بالعبارة الشهيرة   المأثورة : "من شب على شيء شاب عليه "  ـ وبغض الطرف عما يثير فينا  ما فيها من جناس ينشغل به البعض عن الحكمة المضمنة فيه فلابد من الوعي بأن من فتح عينيه على انحراف القيم أو على الوافد منها على مجتمعه ، فإنه يتشربها  في وجدانه ، وتحصل لديه قناعة راسخة بأن ما هو عليه  من سلوك  منحرف  أو وافد هو عين الصواب ،وهو الحقيقة ، ولا يمكن أن يخطر له  على بال أنه  قد تنكّب بذلك الصواب ، وهو لا يعي ذلك أو يشعر به . 

و أخيرا نقول لقد صار في زماننا هذا ،الثابت منا على قناعتنا ، وقيما الإسلامية ، يعيش غربة ، بل صار هو الآخر استثناء في مجتمعنا ، بينما صار المتحولون عن قناعتنا ، وعن قيمنا أصلا ونموذجا ، بل وقدوة . ولهذا لا بد لمن بيدهم سلطة القرار أن يتداركوا هذا الانحراف الفظيع عن قيمنا ، وذلك بتجديد الصلة بمرجعيتنا الإسلامية قبل أن تصير الشقة بعيدة بيننا وبينها، تصير لأجيالنا القادمة هجنة  ـ إن صح التعبير ـ على مستوى القيم ، ويكون ذلك نسفا لهويتنا الإسلامية من أساسها.

وسوم: العدد 1037