التضحية في فكر الإمام الشهيد حسن البنا .. رؤى ومواقف
مقدمة:
يمثل مفهوم التضحية أحد الركائز الأساسية للدعوة الإسلامية بشكل عام ولدعوة الإخوان بشكل خاص، فهو أحد أركان بيعتها، وكان للإمام البنا "رحمة الله عليه" تأطير جديد لمفهوم التضحية ودمجه في مؤسسات العمل الإسلامي كركن أصيل من أركان البيعة داخل جماعة الإخوان المسلمون وتبنى البنا مفهوم التضحية بإطاره الواسع " ويشمل التضحية بالنفس والوقت والمال "وهو ما ربى عليه جماعة الإخوان بعد ذلك، وكان البنا نموذج واضح للتضحية، وهو ما سنتعرض له من خلال هذا البحث.
مفهوم التضحية:
كلمة التضحية في اللغة: مصدر للفعل ضحى، يُقال: ضحَّى بالشاة ونحوها أي ذبحها في الضحى يوم عيد الأضحى، ويُقال: ضحَّى بنفسه، أو بعمله، أو بماله أي بذله دون مقابل (المعجم الوجيز)؛ من المفهوم يتضح أن الذي يضحي بوقته أو بماله أو بنفسه في سبيل غاية عظيمة ومقصد نبيل لا ينتظر مقابلاً إلا رضا الله سبحانه وتعالى.
مفهوم التضحية عند البنا:
يقول الإمام البنا فى تعريفه لمفهوم التضحية: وأريد بالتضحية: بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الغاية، وليس في الدنيا جهاد لا تضحية معه، ولا تضيع في سبيل فكرتنا تضحية، وإنما هو الأجر الجزيل والثواب الجميل، ومن قعد عن التضحية معنا فهو آثم ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ﴾ (التوبة: من الآية 111)، ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)﴾ (التوبة)، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)﴾ (التوبة)، ﴿فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمْ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)﴾ (الفتح) وبذلك تعرف معنى هتافك الدائم (والموت في سبيل الله أسمى أمانينا).
التضحية .. رؤية شرعية:
إن التضحية بالنفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الله قد تكون واجبًا لا فكاك عنه إذا كان لا بد منها لدفع الضرر عن المسلمين أو رد عدو عن أرضهم، وقد تكون التضحية مندوبًا إليها ومستحبة عندما لا تكون واجبة، وقد طالب الإسلام المسلمين بالتضحية في سبيل الله ووعد بالجزاء عليها أحسن الجزاء.
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾ (التوبة).
ولما كانت الدعوة لا تحيا إلا بالجهاد، ولا جهاد إلا بتضحية، فقد وجبت التضحية وحرم القعود والبخل ولحق صاحبه الإثم، فقد قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)﴾ (التوبة).
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)﴾ (التوبة)، وقال تعالى: ﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)﴾ (محمد)، ﴿فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمْ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)﴾ (الفتح)، ولقد أدرك الإمام الشهيد هذه المعاني، وعلم العاقبة الوخيمة التي تنتظر القاعدين، ومن هنا أعلن بكل قوة وصراحة أن "من قعد عن التضحية معنا فهو آثم".. فكيف لا وقد توعدهم الله ووصفهم بالفسق، كما توعدهم بالعذاب الأليم والاستبدال أكثر من مرة.
بين التضحية والجهاد:
يعلِّق الأستاذ سعيد حوى- رحمه الله- حول هذا المعني فيقول "هناك فارق إلى حد ما بين الجهاد والتضحية فأحيانًا يتطابقان وأحيانًا يتكاملان؛ ولذلك اعتبرهما الأستاذالإمام البنا ركنين، فقد يجاهد المجاهد حتى إذا جاء دور بذل الروح تردد، وقد يجاهد المجاهد بالوقت ويضحي بالمال ولكنه لا يضحي بالحياة، ومن ثم أدخل الأستاذ البنا التضحية بالنفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في هذا الركن، إنه حيث وجد جهاد وجد نوع من التضحية غير أن الجهاد الكامل لا يكون إلا إذا وجدت تضحية كاملة، وإن ميزان هذا الركن هو أن يبذل الإنسان نفسه وماله ووقته وحياته من أجل تحقيق الأهداف في سبيل الله".
ملامح الشخصية المضحية كما يراها البنا:
حدد الإمام البنا ملامح الشخصية المضحية المجاهدة على طريق الدعوة؛ حيث قال:
(أستطيع أن أتصوَّر المجاهدَ شخصًا قد أعدَّ عدته، وأخذ أهبته وملك عليه الفكر فيما هو فيه نواحي نفسه وجوانب قلبه، فهو دائم التفكير، عظيم الاهتمام، على قدم الاستعداد أبدًا، إن دُعي أجاب، أو نودي لبَّى، غدوه ورواحه وحديثه وكلامه وجده ولعبه لا يتعدى الميدان الذي أعد نفسه له، ولا يتناول سوى المهمة التي وقف عليها حياته وإرادته، يجاهد في سبيلها، تقرأ في قسمات وجهه، وترى في بريق عينيه، وتسمع من فلتات لسانه ما يدلُّك على ما يضطرم في قلبه من جوًى لاصقٍ وألمٍ دفينٍ، وما تفيض به نفسه من عزمة صادقة وهمَّة عالية وغاية بعيدة).
من هنا وجب على العاملين أن يشمروا عن سواعدهم، وأن يتخففوا من أثقال هذه الدنيا، وأن يعيشوا حياتهم عزيزة كريمة من أجل قضية كبيرة وغاية عظيمة، وأن يعلموا أن نجاحهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة مرهون بما قدموه لدينهم ودعوتهم.
مجالات التضحية كما يراها الإمام البنا:
يقول الإمام البنا عن مجالات التضحية، فيقول: "وأريد بالتضحية: بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الغاية، وليس في الدنيا جهاد لا تضحية معه" فوسًع الإمام البنا التضحية لتشمل النفس والوقت والمال بل والغاية فلابد للتضحية من غاية هي أساس العمل وصوابه فمجالات التضحية وفق ما يراها الإمام البناكالآتي:
1- التضحية بالنفس:
التضحية بالنفس في سبيل الله - أي الغاية التي جاء من أجلها الإسلام - تعني الموت أي الاستشهاد في سبيل الله تعالى، وذلك إنما يكون بجهاد أعداء الله وقتالهم من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا .
والمقاتل في سبيل الله إما أن ينتصر على أعداء الله، فيحقق هذا النصر الإعزاز لدين الله في هذه الدنيا، فيكسب بذلك النصر في الدنيا، ويكون له في الآخرة جزاء حسن عند الله تعالى، وإما أن يقتل في سبيل الله، فيمضي إلى ربه شهيدا قد غُفر له ما تقدم من ذنبه على المستوى الشخصي، وعلى المستوى الاجتماعي في أمته يكون باستشهاده في سبيل الله قد رسم لمن بعده طريق العزة والكرامة والتضحية بالنفس في سبيل الحق، ويَسّر بهذا الاستشهاد لكل من جاء بعده من المؤمنين أن يمضي في طريق التضحية بلا خوف ولا حزن، متخطيا صعوبة حب الإنسان للحياة وللسلامة، إذ يرى في الذين سبقوه علامات بارزة في طريق العزة التي يريدها الله تعالى لدينه ولرسوله ، وللمؤمنين .
وقد سجل القرآن الكريم كراهية الإنسان للقتل لأنه مفطور على حب الحياة، وكراهيته لما يصيبه من فقد لبعض الأعضاء في الحرب لأن من فطرته حب السلامة قال الله تعالى: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ، وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ " قال المفسرون:
وإنما كان الجهاد كرها لأن فيه إخراج المال ومفارقة الوطن والأهل والتعرض بالجسد للشجاج والجراح، وقطع الأطراف، وذهاب النفس .
فكانت كراهيتهم لذلك لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى، وقال عكرمة: إنهم كرهوه ثم أحبوه، وقالوا سمعنا وأطعنا، وهذا لأن امتثال الأمر يتضمن مشقة، ولكن إذا عرف الثواب هان في جنبه مُقاساة المشقات.
قال القرطبي في تعليقه على حب الدعة والراحة وترك القتال، مع أن ذلك شر: " وهذا صحيح لا غبار عليه، كما اتفق في بلاد الأندلس، تركوا الجهاد، وجبنوا عن القتال، وأكثروا من الفرار، فاستولى العدو على البلاد، وأي بلاد؟ وأسر وقتل، وسبي واسترق، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وذلك بما قدمت أيدينا وكسبته " .
2- التضحية بالمال
التضحية بالمال في سبيل الله تعالى من أنواع التضحية ذات الشأن الكبير في إحقاق الحق، وتأمينه وتأمين أهله والمنادين به، إذ لا يخفى على أحد ما للمال من أهمية في حياة الإنسان .
والتضحية بالمال أنواع:
منها بذل المال في تجهيز الجيوش المجاهدة في سبيل الله .
ومنها تأمين الاحتياجات المتوقعة لهذه الجيوش في المستقبل القريب أو البعيد .
ومنها بذله في سبيل التمكين لدين الله ونشره في الأرض والدعوة إليه .
ومنها تأمين احتياجات المسلمين في حالة السلم .
ومنها بذل المال لدفع ضرر عن المسلمين في الحاضر أو المستقبل .
ومنها بذله في وجوه الخير والبر عموما .
والامتناع عن الإنفاق في سبيل الله، أو الضن بالمال وعدم التضحية به، عمل مستنكر، لا يليق بمسلم، بل عمل لا مبرر له، لأن المال على وجه الحقيقة مال الله، يرثه ويرث كل ما في السموات والأرض، والإنفاق في سبيل الله قرض لله تعالى يُصلح به المؤمن أحوال إخوانه في الإسلام، وله على هذا القرض أحسن الجزاء .
قال الله تعالى: " وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ، مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ " .
وفي الآيتين الكريمتين عدة حقائق منها:
أنه ما ينبغي أن يثني المؤمن عن الإنفاق في سبيل الله والتضحية بالمال شيء .
وأن الناس في التضحية بالمال في سبيل الله درجات، فالذي يضحي بماله في وقت يكون المسلمون فيه أحوج إلى المال، يكون أعلى درجة من الذي أنفق ماله في غير هذه الظروف، وإن كانا مأجورين موعودين بالحسنى من الله تعالى .
وأن الله تعالى رغّب المسلمين في أن ينفقوا أموالهم في نصرة المسلمين، وقتال الكافرين ومواساة فقراء المسلمين، وسمى ذلك الإنفاق قرضا، من حيث وعد به الجنة إذا كان قرضا حسنا.
ومن الجدير بأن يلحظ في مجال التضحية بالمال، أن اعتبرت هذه التضحية به في أوجه الخير قرضاً لله تعالى - والله سبحانه غني عن العالمين - فجاءت آيات قرآنية كثيرة وأحاديث نبوية شريفة تطلب من المسلمين أن يقرضوا الله قرضا حسنا، قال الله تعالى : " مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ "، وقال جل شأنه: " إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ " .
3- التضحية بالوقت:
الوقت هو عمر الإنسان في هذه الحياة الدنيا، وعلى الرغم مما للوقت من هذه الأهمية في حياة الإنسان، فإن الإسلام قد طالب المؤمن بأن يضحي بوقته كله أو ببعضه من أجل الحق الذي يؤمن به، ومن لم يضح بوقته من أجل دينه فقد قصّر في حق نفسه أولا، وفي حق دينه، وفي حق إخوانه في الدين، وفي حق مجتمعه الذي يعيش فيه .
ومن ضنّ بوقته على الدعوة إلى الله، فقد تسبب في تعويق سير الدعوة، وحال بين الدعوة وبين أن تصل إلى كل من يجب أن تصل إليه، فكان بذلك من المقصرين .
والموفق هو الذي يوائم بين أوقاته وواجباته، لأن الواجبات في غالب الأحيان أكثر من الأوقات، وما لم يحدث هذا التلاؤم ضاعت الواجبات وفي ضياعها تقصير ومعصية ، وكلمة الإمام البنا في الوقت هي : " وأريد بالتضحية بذل .. الوقت في سبيل الغاية ... "
والغاية هي تحقيق الأغراض التي جاء من أجلها الإسلام وهي : " شرح دعوة القرآن الكريم وجمع قلوب الناس على مبادئها، وتنمية الثروة القومية وتحقيق العدالة الاجتماعية وتحرير البلاد العربية والإسلامية من كل سلطان أجنبي، وقيام الدولة الصالحة التي تنفذ أحكام الإسلام، ومناصرة التعاون الدولي في ظل القيم الفاضلة .. "
ولا يمكن أن تتحقق هذه الأغراض إلا بالتضحية بالوقت الذي تتم فيه هذه الأعمال، وهذا الوقت المبذول في سبيل الله هو أحسن الأوقات وأفضلها وأبقاها عند الله تعالى وأرضاها له سبحانه وتعالى ..(1)
4- التضحية من أجل الغاية
ثم يتطرَّق الإمام البنا بعد ذلك إلى التضحيات المطلوبة في سبيل الغاية، فيقول: "ثم بيَّن الله- تبارك وتعالى- أن المؤمن في سبيل هذه الغاية قد باع نفسه لله وماله، فليس له فيها من شيءٌ، وإنما هي وقفٌ على نجاح هذه الدعوة وإيصالها إلى قلوب الناس، وذلك قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ" (التوبة: من الآية 111)، ومن ذلك ترى أن المسلم يجعل دنياه وقفًا على دعوته؛ ليكسب آخرته جزاء تضحيته".
ويتِّضح لنا مما سبق عدةُ أمور أساسية حول الغاية التي نعمل من أجلها:
أولاً: أن غاية المؤمن هي إرضاء الله- عز وجل- بالتمكين لدينه في الأرض، وهداية البشرية إلى الحق، وإرشاد الناس إلى الخير، وإنارة العالم كلِّه بشمسالإسلام.
ثانيًا: إن السبيل إلى تحقيق هذه الغاية العليا تتطلب غايةً أخرى، وهي تكوين جيلٍ جديدٍ من المؤمنين بتعاليم الإسلام الصحيح، يعمل على صبغ الأمة بالصبغة الكاملة في كل مظاهرها.
ثالثًا: يعمل الإخوان المسلمون لغايتين؛ غاية قريبة: المساهمة في الخير العام أيًّا كان لونُه ونوعُه والخدمةُ الاجتماعيةُ كلما سمحت بها الظروف.. غاية بعيدة أساسية: إصلاحٌ شاملٌ كاملٌ، تتعاون عليه الأمة جميعًا، وتتجه نحوه الأمة جميعًا، ويتناول كل الأوضاع القائمة بالتغيير.
رابعًا: أن هذه الغاية لم يبتدعها الإخوان المسلمون ابتداعًا، ولم يختلقوها من أنفسهم، وإنما مصدرها القرآن الكريم والسنة المطهرة وسيرة الصحابة الكرام والسلف الصالح.
خامسًا: أن هذه الغاية تحتاج إلى تضحياتٍ كثيرةٍ بأن يجعل المسلم دنياه وقفًا على دعوته ليكسب آخرته جزاءَ تضحيته..(2)
التربية على التضحية:
يبين الأستاذ محمد فريد عبد الخالق، وهو رفيق الإمام البنا وعضو الهيئة التأسيسية أسلوب الإمام البنا في نشر وتربية الأفراد على مفهوم التضحية فيذكر أحد تلك المواقف، فيقول:
ولما كان الشيء بالشيء يذكر فثمة درس آخر مما تعلمت من إمامنا الفذ – وهو كثير – وله صلة بما أسلفت من كلام عن قضية فلسطين أنه كان لي دوري في إعداد مجموعات المتطوعين من الطلبة ، وقد استرعى انتباه المرشد العام المشرف العام على العملية، أن المجموعات التي أعدت كانت كلها من الإخوان المسلمين، فنصحني بأن تنتظم كل مجموعة عددا من الراغبين في التطوع من غير الإخوان المسلمين؛ لتوسيع دائرة التطوع وعدم قصرها على الإخوان، حتى تشمل أكبر قطاع من الشعب ليتربى الشعب على معاني التضحية والبذل والمشاركة في الهم العام، ويغير ما بها من سلبية إلى إيجابية تواجه المشكلات الحاضرة والقادمة العربية والإسلامية، وتوجهه إلى الوعي بها والمشاركة في حلها، وتحمل تبعاتها بوازع من عقيدته وضميره وانتمائه إلى أمته ، فبالتضحية في سبيل مصلحة الأمة تتربى الشعوب وتنهض الأمم، وتتأهل للدفاع عن كرامتها وحريتها واستقلالها، وتألف بذلك الرخيص والغالي من أجلها حتى تصبح شعوبا لا ترضخ لإذلال غاز ولا استبداد حاكم، وتوقن بأن أمرها إليها وأنها على كفاءة لتحقيق قدر الله – الحكم العدل – وأن تجاهد في سبيل وجودها ورقيها .. واتبعت النصيحة، وتعلمت الدرس الكبير المعاني العميم الفائدة .
طالما أكد الإمام البنا على أن وحدة أمتنا دين لقوله تعالى (وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) [المؤمنون:52] .. أي اتقوا الله في وحدة أمتكم بالمحافظة عليها وتجنب كل ما يدعو إلى الفرقة والاختلاف بإطلاق، فهي مناط قوتكم ومنعتكم وتقمكم، وكما في قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) نص عريض،[آل عمران:103] ..(3)
جزاء من قام بالتضحية:
يقول الإمام البنا رحمه الله في جزاء من قام بالتضحية: " ولا تضيع في سبيل فكرتنا تضحية، وإنما هو الأجر الجزيل والثواب الجميل " .
ومن أجل أن التضحية إنما تكون - كما أسلفنا - ببذل الجهد والوقت والمال والنفس أحيانا، كان جزاؤها عند الله كبيرا .
والتضحية من أجل الدين أحسن وأغلى ما يقدمه الإنسان إلى الله من عمل صالح، بل هي قمة العمل الصالح الذي يُرضي الله تبارك وتعالى فيجزى عليه أحسن الجزاء، قال الله تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ "
وعلى سبيل المثال:
فإن من يضحي بوقته وجهده في التفكير في أمور المسلمين اليوم، وفيما يعود عليهم بالنفع، أو يدفع عنهم الضرر، يقوم بعمل جليل وجهد مشكور لا يضيع أجره عند الله تعالى، إنه مجرد تفكير ولكن له من الأهمية ما يعود على المسلمين بالفائدة، إذ ليست الأعمال العظيمة إلا أفكارا في البداية !!!
ومعاونة المسلمين في أي مكان في حربهم مع أعدائهم، بمدهم بما يحتاجون إليه من مال ودعم مادي وأدبي، والجهر بكلمة الحق والتواصي بها، والصبر عليها تضحية قد تكون لها أثمان باهظة في نظام حكم مستبد ظالم، يخشى كلمة الحق، لأنها ترده عن ظلمه واستبداده .
إن الجهر بكلمة الحق أمام السلطان الجائر من أفضل أنواع الجهاد . روى أحمد بسنده عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر " .
ونشر العلم بين الناس، ودعوتهم إلى الله والحرص على تعليمهم أمور دينهم ودنياهم وتبصيرهم بما يحيط بهم من شر ليتجنبوه، وما يعرض لهم من خير ليستزيدوا منه، كل ذلك تضحية في سبيل الله وهي نوع من الجهاد لا يضيع أجره عند الله تعالى .
وبذل الجهد والوقت والمال في مجال الدعوة الفردية أو في الحلقات المسجدية أو الندوات العامة ونحوها تضحية في سبيل الفكرة والعقيدة الإسلامية، حتى تصل إليهم الفكرة واضحة نقية، مقنعة بالحق، قادرة على رد الناس عن الباطل.
مصادر الترجمة:
١_ موقع نافذة مصر 2023م.
٢_ مجموعة رسائل الإمام حسن البنا رحمه الله.
٣_ موقع إخوان ويكي .
٤_مواقع إلكترونية أخرى.
وسوم: العدد 1046