عراقيون في جزر الكناري
كاظم فنجان الحمامي
محطة منسية أخرى من محطاتنا البحرية المبعثرة على هوامش ذاكرتنا الوطنية المعطوبة, وقصة مشوقة من قصص الأساطيل العراقية المحذوفة من سجلاتنا العتيقة, وصورة رائعة من صور الانتشار والتألق الملاحي, تحكي تفاصيل التوسع الهائل لأسراب سفن الصيد, التي غادرت البصرة عام 1980, لتخوض غمار البحار العميقة بالطول والعرض, وتطوي مسالك الخليج العربي وخليج عمان وبحر العرب والمحيط الهندي, حتى وصلت إلى ظلمات المحيط الأطلسي, فرمت شباكها هناك لتصطاد أسماك التونة والساردين من الأعماق الغنية, المقابلة للسواحل الجنوبية لقارة أفريقيا, ثم انتقلت عام 1982 إلى السواحل الموريتانية بموجب الامتياز المجاني الذي منحته حكومة نواكشوط للسفن العراقية بممارسة الصيد في مياهها الممتدة بين سواحل (نواذيبو) وجزر الكناري.
كان الأسطول مؤلفا في بدايته من خمس سفن صيد, هي: (الرزازة), و(الكحلاء), و(ساوة), و(الأهوار), و(النهروان), تساندها ثلاث سفن من سفن الأمهات الكبيرات, هي: (البحر العربي), و(الساحل العربي), و(زين القوس).
معظمها من السفن الحديثة الصنع, يشرف عليها طاقم عراقي مؤهل بحرياً وملاحياً وهندسياً وتشغيلياً, يعمل معهم خبراء من روسيا وبولندا, يدعمهم مكتب الوكالات البحرية (ATLMAR) في لاس بالماس باعتباره القاعدة اللوجستية والهندسية والتسويقية لسفن الأسطول. فيشرف على صيانة السفن وأدامتها, وأنيطت به أيضاً مسؤولية تجهيزها بالمؤن والمعدات ولوازم الصيد الأخرى.
لقد توطدت العلاقات تدريجياً بين الطواقم العراقية وسكان الجزيرة, ثم تعمقت أكثر فأكثر بالزواج والمصاهرة, وهكذا استقروا في أحياء الجزيرة وقراها, فظهرت عوائل وأسر مركبة من العراقيين وأحفاد الأندلسيين, ما اضطر السفارة العراقية وقتذاك إلى افتتاح مدرسة خاصة في منطقة (سيوداد ألتا) بالقرب من مستشفى (فكتوريا) البريطاني, وخصصت أجمل الباصات لنقل الطلاب, وكان المهاجر الفلسطيني (زياد) رحمه الله هو سائق المدرسة.
انسجم العراقيون مع الشعب الكوانجي (Guanuche) الذي يقطن الجزيرة منذ قرون, وينحدر من أصول مغربية وأندلسية, وأقرب جزرهم (فيورته فينتورا Furete Ventura) لا تبعد عن المغرب سوى (60) كم, ولم تمض بضعة سنوات حتى صار العراقيون من العناصر الفعّالة في الأنشطة الاجتماعية العامة للجزيرة, وربما كان للظروف القاسية التي واجهها العراق في عقد الثمانينات والتسعينات الدور الأكبر في استقرارهم في هذا الملاذ الفردوسي الآمن, فحصلوا على الجنسية الأسبانية, وأنجبوا الأولاد والأحفاد, وتكاثروا بمرور الزمن, حتى أصبح معظمهم في المواقع المرموقة, فظهر منهم التاجر والمقاول والموظف ورجل الأعمال, وهكذا صار الكابتن البحري (مهدي عبد الحسين زبيِّن) مرشداً بحرياً في ميناء (لابالما), وصار الكابتن (جميل هادي جبر) ربانا لإحدى سفن شركة (آرمس), واشتغل المهندس البحري (كاظم حسن جعاتي) في سفن الصيد لشركة (منغاليسيا), ثم فتح له مطعماً للوجبات السريعة في شارع (لانا فال), يحمل اسم (Resturante Iraqui) باللغة الاسبانية, ثم انتقل إلى البلاج الرئيس في (لاس كنتيرس Las Canteras), وكان مطعمه مقراً دائماً للجالية العراقية في الجزيرة, أسس له بعد ذلك شركة لتسويق الأسماك بالمشاركة مع المواطن الكويتي (جاسم الكليب) باسم شركة (جاسكو كناريا).
وعلى السياق نفسه أصبح الكابتن البحري (زياد طارق محمد) خبيراً بحرياً لمكاتب الفحص والمعاينة البحرية, واشتغل الضابط البحري (إبراهيم خليل) في مهنة التجارة, وعمل زميله (عدي محمد حسن), في الأعمال الحرة, وسار كل من الملاح (سعد إبراهيم), والمهندس البحري (علي عبد الحسين خليفة), والمهندس البحري (محمود جعفر) على نهجهم, واشتغل المهندس البحري (سعدي شاكر مياح) في ورشة بحرية, بينما أشتغل المهندس البحري (ضرغام أحمد ذنون) على منصات النفط العائمة في عرض البحر, واستقر الملاح (معن حسام) في جزيرة (فيورته فينتورا), وخطفت يد المنون الملاح (راسم) فدفنوه هناك في مقابر الجزيرة النائية, ولا يفوتنا أن نشير بالذكر إلى الدكتور (ستار حاتم الزبيدي) الذي كان من الأطباء العراقيين الأكفّاء, الذين ألقوا مراسيهم البابلية هناك, وله عيادة طبية كبيرة في (خوان أرتيمي Guan Artemi).
لقد تحطم الأسطول العراقي بين ليلة وضحاها عام 1989, وتهشمت صواريه بقرارات ارتجالية بيعت بموجبها سفننا المنتجة بالمزادات العلنية, بأبخس الأسعار, فتشتت خبراؤنا في محطات الغربة والاغتراب. وانطوت صفحة ثمينة من صفحاتنا البحرية المشرقة, وضاع الخيط والعصفور مع عصافير جزر الكناري.