المها والكلاب في الشِّعر العَرَبي-4 (دراسةٌ بيئيَّةٌ في المُثُل والجَماليَّات)
ذكرنا في المساق السابق أنَّ الشاعر الجاهليَّ حين يشبِّه ناقته بـ(ذَكَر المها/ الثور الوحشي) ثمَّ يعود إلى المشبَّه (الناقة) فإنَّ هذا من أدلِّ الأدلَّة على أنَّ الشاعر، إذ يَستغرق في تصوير الثور، فإنَّما كان يَفْتَنُّ في تصوير (ناقته)، أو بالأحرى تصوير نفسه، وما يقاسيه من شَظَفِ العَيش ومتاعب الحياة، وذلك بأسلوبٍ غير مباشر، يُمعِن في تكثيف عناصر التأثير فيه بهذا السياق الدرامي حول حيوان تستدرُّ صورته تعاطف المتلقِّي، فضلًا عمَّا تحمله الصُّورة من رمزيَّةٍ خاصَّةٍ لدَى الإنسان الجاهلي، الذي كانت (المها) ضمن معجم القداسة لديه من عالم الحيوان، المرتبطة ببعض الكواكب والنجوم، ولا سيما الشمس والقمر.
ولمَّا لم يكن الأمر من قَبيل الاستطراد، أو الانقطاع الساذج عن المعنى الأوَّل، فإنَّ الصُّورة في بعض أشعارهم تعود إلى التداخل ضِمن سياق صُورة الثور نفسها؛ فإذا الشاعر يشبِّه أفعال الثور بأفعال الإنسان. وذلك ما نجده عند (لَبيد)(1)، حيث يقول:
فـتَـداركَ الإشـراقُ باقِـيَ نَفْسِـهِ
مُـتَـجَـرِّدًا كالمـائـحِ العُـرْيــانِ
فحَمَـى مَقـاتِلَـهُ وذادَ بِـرَوْقِــهِ
حَمْـيَ المُحاربِ عَـوْرَةَ الصُّحْبـانِ
شَزْرًا على نَبْضِ القُلوبِ ومُقْدِمًا
فـكـأَنَّمـا يَخْـتـَـلُّـهـا بِـسِــنـانِ
ومن وجهة نظرٍ نفسيَّة، فإنَّ مثل هذه الصُّوَر المتداخلة تنشأ نتيجة «التكثيف اللَّا شعوري». ويسمِّيها (عِزُّ الدِّين إسماعيل)(2) بالصُّوَر المكتظَّة، التي يقول عنها: إنَّ «هذا التأليف لا يحمل صفةً منطقيَّةً، وإنَّما هو يُمثِّل الصُّوَر الحبيسة في اللَّا شعور، عندما تطفو على السطح في حالة إغفاءٍ من الشاعر، فتظهر في نظامٍ كأنَّه لا نظام». بَيْدَ أنَّه إذا كان يصحُّ مثل هذا التأويل النفسي في بعض الصُّوَر الشِّعريَّة الجاهليَّة المكتظَّة، فإنَّ البُعدَين الرَّمزيَّ والفنِّيَّ يبدوان- جنبًا إلى جنب- أهمَّ الأسباب وأوضحها وراء الاستغراق في مشهد (الثور الوحشي). ولذا فإنَّ تلك الصِّلَة الجدليَّة، بين الثور والإنسان، قد نشأت عنها معايير جَماليَّة وقِيميَّة لهذا الحيوان، تمحورت حول الإنسان بجَماليَّاته وقِيَمه، وجاءت أحيانًا صريحة، متبادلة، كما في المثال الأخير.
وأغلب الظنِّ أنَّ (الجاحظ)(3) قد أومأ إلى شيءٍ من هذا، لمَّا ذكر أنَّ الشاعر الجاهليَّ إذا مدح جعل (الثور الوحشي) هو المنتصر على الكِلاب- ونظير ذلك أبيات (الأعشى) السالفة في المقال السابق- وإذا رثَى أو وَعَظَ جعل الثور هو المقتول، «ليس على أنَّ ذلك حكايةٌ عن قِصَّةٍ بعَينها».(4) فهو بهذا يومئ إلى أنَّ في قَصْد الشاعر شيئًا يتجاوز حرفيَّة صورته القصصيَّة وعينيَّتها، وهو ما يمكن تصوُّره في تلك الرابطة الفنِّـيَّة الرَّمزيَّة المزدوجة بين الإنسان والثور الوحشي.
وعلى قدر ابتعاد العَرَب التدريجي، بعد الإسلام، عن بيئتهم الأُولى، الصحراويَّة والوثنيَّة، لوحظ، في ما وصل إلينا عنهم من شِعرٍ، ابتعادٌ عن هذا النمط من الوصف القديم (للثور الوحشي) وصراعه. يُستثنى من هذا أولئك الشُّعراء الذين تشرَّبت أنفسهم روح الشِّعر الجاهليِّ وأنماطه، من مخضرمي الشُّعراء، كـ(ابن مُقْبِل، عاش إلى 70هـ= 689- 690م)(5)، الذي عَرَضْنا نماذج من شِعره في المقالات السابقة. من حيث إنَّ النمط التصويريَّ هنا ليس بوليد البيئة وحدها، بل هو وليد الثقافة الأُسطوريَّة فوق ذلك، ووليد العقائد الطوطميَّة التي كانت سائدة في العصر الجاهلي. ولهذا لا نجد هذا النمط التصويريَّ عند الشُّعراء الذين عاشوا في بيئات صحراويَّة مشابهة، أو عاشوا في البيئة العَرَبيَّة نفسها بعد الإسلام. وأمَّا الذين جاء في شِعرهم وصفُ الثور الوحشي- ممَّن عاشوا في فترة متأخِّرة عن صدر الإسلام، كـ(ذي الرُّمَّة) وغيره- فإنَّما اتَّخذوه تقليدًا، في الغالب، لا يتمتَّع بما تمتَّع به الشِّعر الجاهلي من صِدقٍ واقعيٍّ حَيٍّ، ولا تُلمَس فيه هاتيك الآفاق الأُسطوريَّة العتيقة، التي مرَّت الإشارة إلى أنَّها كانت وراء جَماليَّات صُورة الثور الوحشي، بل ليس من المبالغة القول: إنَّها كانت المحرِّك إلى الاهتمام بتصوير هذا الحيوان أصلًا، إنْ لم يكن في كلِّ الأحوال ففي جُلِّها. ومن ثَمَّ اتَّضح تصاقب الطُّرق في تصويره ونمطيَّاتها، المتأتِّية عن المشترَك الرَّمزيِّ بين الشُّعراء، على الرغم ممَّا قد يظهر بينهم من تنوُّعٍ، أو من تفاوتٍ في تمثُّل الرمز الأُسطوريِّ على الوجه الأوفَى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (1962)، شرح ديوان لَبيد بن ربيعة العامري، تحقيق: إحسان عبَّاس، (الكويت: وزارة الإرشاد والأنباء)، 144- 146/ 19، 23- 24.
(2) يُنظَر: (1963)، التفسير النفسي للأدب، (القاهرة: دار المعارف)، 94- 96.
(3) يُنظَر: (1965)، الحيوان، تحقيق: عبدالسَّلام محمَّد هارون، (مِصْر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي)، 2: 20.
(4) قد يقال إنَّ (الجاحظ) إنَّما أراد أنَّ الشُّعراء يتوقَّون عادةً ما يثير التشاؤم لدَى ممدوحيهم، فيجعلون (الثور) فائزًا. وفي المقابل يعبِّرون عن المصير والعِظَة بتصوير مصرع الثور في الرثاء أو الموعظة. غير أنَّ هذا محض افتراض، ولم يقل الجاحظ بشيءٍ منه. ولعلَّ تصوير (خسارة الصائد) في المدح أدعى إلى تشاؤم الممدوح. هذا بالإضافة إلى أنَّ في عبارة الجاحظ ما يوحي بأكثر من ذلك الاستنتاج الافتراضي.
(5) يُنظَر: الفَيفي، عبدالله بن أحمد، (1999)، شِعر ابن مُقْبِل: قَلَق الخَضْرَمة بين الجاهلي والإسلامي (دراسة تحليليَّة نقديَّة)، (جازان: نادي جازان الأدبي)، 1: 76- 77.
وسوم: العدد 1053