رسالة إلى وزير الثقافة المغربي
مقدمة:
"الربيع العربي" الذي حلمت به طيلة فترة شبابي والذي كرست له كل نصوصي الإبداعية منذ اليوم الذي نشرت فيه أول نص أدبي ("افتح، يا سمسم"، قصة قصيرة) سنة 1994 بملحق "بيان اليوم الثقافي" (النص الذي كتب سنة 1991)، إلى الرواية التي كتبتها في عز الثورة الليبية ونشرت بعد القبض على العقيد ومقتله، "عدو الشمس، البهلوان الذي صار وحشا"، التي اعتبرت أول رواية عن الثورة الليبية... الحلم، كل الحلم، انهار مع العودة إلى ثقافة الانقلابات اللانهائية. ومع هذا الانهيار، خامرني شك خانق بعدم قدرة الإبداع على التعايش مع مجتمعات قصيرة النفس في عالم سباق المسافات الطويلة فقررت التوقف عن الكتابة لبعض الوقت لمراجعة الذات وممارسة نقد ذاتي ولم أكن أعلم بأن الأمر سيفضي بي إلى التوقف عن الكتابة لأكثر من عقد من الزمن. لكن التوقف عن الكتابة والنشر لم يكن توقفا عن الفعل الأدبي والثقافي وإنما كان فترة إصلاح لمنهجي في التفكير وفرصة لتعديل فلسفتي في الكتابة وتغيير أساليبي في التواصل وتدبير العلاقات الثقافية والأدبية. لقد كانت فترة توقفي عن الكتابة (2013-2023) فترة مراجعة ومساءلة الذات. لقد كانت فترة نقد ذاتي حارق ولكن جاد. هذه السنة، 2023، قررت العودة إلى عالم الكتابة والنشر لكن رياح استقبال وزارة الثقافة المغربية لعودتي لم تكن كما كان يتوقع البَحّارُ.
نص الرسالة:
السيد وزير الشباب والثقافة والتواصل المحترم
الموضوع: حول رفض مصلحة الإيداع القانوني بالمكتبة الوطنية بالرباط تسليمي وصل إيداع لمشروع كتابي قيد الطبع
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
أما بعد
ففي الأسبوع القادم، سيكتمل الشهر بأيامه الثلاثين على انتظار وصل الإيداع القانوني لمشروع الكتاب الذي قدّمت كل المعلومات اللازمة عنه باللغتين العربية والفرنسية إلى مصلحة الإيداع القانوني بالمكتبة الوطنية بالرباط العاملة تحت إمرتكم. فقد راسلت، بتاريخ 17 شتنبر 2023، المصلحة المذكورة عن طريق البريد الإلكتروني، كما هو معمول به في التواصل مع هذه المصلحة منذ أكثر من عقد من الزمن، طلبا لوصل الإيداع القانوني وكذا الترقيم الدولي المعياري للكتاب، ظنّا بأنني سأتوصل بالوصل المطلوب في رمشة عيْن ما دام الأمر لا يتطلب بحثا في طبيعة الكتاب أو تحقيقا في خلفياته أو تقصّيا لإيديولوجية مؤلفه. لكن الأمور انحرفت إلى متاهات غير متوقعة لا علاقة لها البتة بالسرعة في خدمة الكتاب، كما قد يوحي بذلك الإلحاح الإداري على استعمال الأنترنت لقضاء حوائج الثقافة والمثقفين. إذ دخلت المراسلات الإلكترونية بيني وبين الموظفين في المصلحة في دوائر مغلقة تكرر ذاتها إلى ما لا نهاية له كما هو مبين في الملف الملحق مع هذه الرسالة، ملف الجرد المفصّل للإيميلات المتبادلة بيننا والمُرتّبة ترتيبا كرونولوجيا، توخيّا لعرض الحقيقة التي قد تكون غابت عنكم، وطلبا للحقيقة التي هي حتْما غائبة عني. وهذا ما أيقظ الشكوك بداخلي ودفعني للتعجيل باتخاذ القرار بمراسلتكم مباشرة لمعرفة حقيقة الأمور.
أود، في البداية، أن أذكركم وأنتم في غنى عن التذكير، السيد الوزير المحترم، بتعاوننا المبدئي والضروري والدائم على إعلاء الشأن الثقافي في البلاد. فمنكم ومن مؤسسات وزارتكم الإدارة والتسيير والتدبير؛ ومنا، نحن معشر المثقفين والفنانين والأدباء، الرأسمال الثقافي والرأسمال الفني والرأسمال الأدبي بإبداعه ونقده وتنظيره. فبتعاوننا مع بعضنا البعض وباحترامنا المتبادل وبالتزامنا بأدوارنا وبتمسكنا بحدودنا وبوفائنا للثقة المفترضة بيننا، تكون مشاريعنا ناجحة بالمسبق. أما في الحالة النقيض، فالقاعدة واضحة: فبدون إدارة وبدون تسيير، يمكن للرأسمال الثقافي الاشتغال بمفرده والتاريخ شاهد إثبات على هذا القول. فقد اشتغلت الثقافة لآلاف السنين قبل عصر النهضة الأوروبية بدون مؤسسات راعية لها أو وصية عليها. أما بدون رأسمال ثقافي، فينتفي مبرر وجود أي إدارة وتبطُل مفاهيم التدبير والتسيير وتسقط من تلقاء ذاتها. فالرأسمال الثقافي هو القاعدة، والفاعل الثقافي هو الأهم، والمنتوج الثقافي هو الأساس. وبعد ذلك، يمكن الحديث عن الإدارة والتسيير والتدبير. وأي قلب لهذه القاعدة، لن يكون له اسم آخر لنعته غير "الشطط الإداري".
فحين يصبح "الموظف" في وزارة الثقافة أعلى شأنا من "المثقف"، أو لنقل عن حسن نية بأنه "يقدم نفسه" كذلك من تلقاء ذاته، فهذا دليل على الخلل في العلاقة بين الفاعل الثقافي وبين الموظف في مؤسسات وزارة الثقافة التي يفترض فيها "تسهيل" عمل المثقف و"تسريع" الآليات القانونية لإخراج الإنتاج الثقافي للنور. فحين يصبح موظف مؤسسات وزارة الثقافة يؤمن بقوة بمنطق "إعطاء وصل الإيداع القانوني لمن يشاء وحجبه عمن يشاء" وبأنه "الشمس التي يدور حولها الفاعلون في الثقافة والفن والأدب"، آنئذ وجب، بكل صراحة وبكل شجاعة، على وزير الثقافة، بصفته المدير الأسمى للقطاع، التدخل وتصحيح الأمر وتذكير الموظفين المعنيين بحدودهم وأدوارهم وواجباتهم. وهذا أبسط الإيمان. إن مثل هذه السلوكات المنبعثة من بين أروقة مؤسسات وزارتكم المفترض أنها تخدم الثقافة والمثقفين في البلاد، السيد الوزير المحترم، لا أحد سَيَشُك في أنها "تهين" الثقافة و"لا تخدمها". إن الميثاق المهني في مؤسسات وزارتكم يتم خرقه في هذه الساعة من ولايتكم على وزارة الثقافة، وأخلاقيات المهنة تُنتَهك، وخدمة الثقافة، التي على أساسها قامت فكرة إنشاء وزارات الثقافة في العالم، وصلت إلى مستويات لا ترضي المثقفين. ولهذا الغرض، أراسلكم اليوم. ففي الملف الثاني الملحق مع هذه الرسالة، تجدون الرسالة التي وجهتها إلى مصلحة الإيداع القانوني بتاريخ الخميس 05 أكتوبر 2023، بعد تبادل عقيم من المراسلات الإلكترونية يشفّ عن نية واضحة في "رفض" المصلحة المذكورة تسليمَ وصل الإيداع القانوني لكاتب وقع بين سندان المطبعة التي تطلب الوصل للشروع في عملية الطبع وبين مطرقة موظفي مصلحة الإيداع في المكتبة الوطنية التابعة لقطاع وزارة الثقافة المغربية التي يبدو أنها تخفي ما لا تظهره من خلال مراسلات مكرورة وعقيمة. واليوم أيضا، الإثنين 09 أكتوبر، تفقدت علبتي البريدية الإلكترونية، لأجد ثلاث رسائل من ذات المصلحة، مصلحة الإيداع القانوني، مُؤرخة بتاريخ السبت 7 أكتوبر2023 الذي يوافق يوم عطلة لدى مصالحكم! والرسائل ثلاثتها تتضمن نصا واحدا بالحرف والكلمة وتطلب، بعد أزيد من أسبوعين، "تعبئة المطبوع" ولكن، هذه المرة، باللغة الإنجليزية!
السيد الوزير المحترم، إن أمر منعي من تَسَلّمِ وصل الإيداع القانوني من طرف مصلحة الإيداع القانوني التابعة لوزارتكم يعني لي، في شقه القانوني، "شططا إداريا". هذا أسهبت في تفصيله أعلاه. ولكن أمر المنع هذا، في شقه الإجرائي، يشي بقرار منع أخطر وأعلى مرتبة وأقوى وقعا من منع تسليم وصل الإيداع. فهل اتّخِذَ في حقّي، خلال العشرية الماضية التي غبْتُ فيها عن الساحة الثقافية، قرار عقابي من طرف وزارة الثقافة ولم يتم إخباري بالأمر؟ هل شطط موظفي مصلحة الإيداع القانوني هو رأس الجليد الذي يخفي ما يخفيه؟ هل أنا ممنوع؟... في الحالة الأولى، أرجو منكم النفي أو التأكيد. وفي الحالة الثانية، فلا بد من التوضيح. أما في الحالة الثالثة، فإنني أشعركم، السيد الوزير المحترم، بأنني، في سبيل استرجاع حقّي في الكتابة والطبع والنشر والتوزيع، سأنفتح على كافة الوسائل المشروعة للتعبير عن رفضي هذا السلوك المعادي للحق في التعبير بما في ذلك العرائض التضامنية. كما سأطرق كل الأبواب المتاحة لإبلاغ جمعيات وهيئات ومنظمات العالم الثقافي بما يحدث لي، في بلادي، من تضييق على حريتي في الكتابة والطباعة والنشر. كما سأحتفظ لنفسي بالحق في اللجوء للقضاء الإداري لتسوية الأمر.
قبل أكثر من عقد من الزمن، السيد الوزير المحترم، أصدرت كتابا من جزأين. صدر الجزء الأول منه سنة 2009 والجزء الثني سنة 2011. ولا أخفيكم سرّا بأنني لا زلت، لحد الساعة، أستحضر فرحة الحصول على وصل إيداع ذلك الكتاب مباشرة من يد الموظفة في مصلحة الإيداع القانوني بالمكتبة الوطنية بالرباط. كانت فرحة لا تصدق ولكنها كانت فقط الفرحة الأولى. أما الفرحة الثانية، فكانت عندما أبدى الموزع آليا قبوله توزيع الكتاب في كل النقاط عبر ربوع المملكة. وقد وقفت عَيْنيّاً على وصول الكتاب إلى مكتبات المغرب وأكشاكه من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. وكانت فرحتي كبيرة عندما رأيت بعض المكتبات تحتفل بالكتاب وتضعه على نوافذها. آنئذ، أيقنت بأن التضييق على حرية التعبير شمل الصحافة والصحفيين في المغرب ولم يَشمَل قطاع الثقافة. كان هذا الكتاب هو "تاريخ التلاعب بالامتحانات المهنية في المغرب". وهو كتاب من جزأين: الجزء الأول صدر سنة 2009 وكان تجميعا لبيانات أكتوبرية سنوية صادرة بين 10 أكتوبر 2004 و30 أكتوبر 2008 عن إرادة التلاعب بمصائر الموظفين في قطاع التعليم التواقين للترقي من خلال إيهامهم بإجراء امتحانات مهنية تيسر لهم الطريق نحو مبتغاهم؛ أما الجزء الثاني منه، فصدر سنة 2011 وكان تجميعا لمراسلات مفتوحة مع وزراء التعليم بالمغرب على امتداد عقد من الزمن (العقد الأول من الألفية الثالثة)، كما كان توثيقا لحقيقة التلاعب بالامتحانات المهنية في المغرب من خلال نشر تسجيلات لوقائع جلسات حوار مع ممثلين لمؤسسات وزارة التعليم حول موضوع التلاعب بالامتحانات المهنية في القطاع. ولم يخطر على بالي أبدا بأن الكتاب المذكور سيسمح له يوما بالخروج إلى أسواق القراءة. لقد كانت ذكرى جميلة جمال الشمس بين الغيوم الداكنة. ولا أذكر ذكرى أجمل منها رغم أني أصدرت عشرين كتابا غيره خلال مسيرتي.
اليوم، السيد الوزير المحترم، لا أعرف إن كانت وزارة الثقافة المغربية قد ندمت على سماحها بصدور الكتاب المذكور آنفاً، "تاريخ التلاعب بالامتحانات المهنية في المغرب"، قبل أكثر من عقد من الزمن، وأنها، في فترة لاحقة على تاريخ صدوره، اتخذتْ قرارا عقابيا اتجاه "القادم" من مشاريعي الثقافية، وهي الفترة التي وافقت فترة توقفي عن الكتابة في زمن ما بعد "الربيع العربي" بحيث يُحتملُ أن تكون معرفة الأمر في حينها قد فاتتني. لكن، في جميع الحالات، لا أعتقد أن لَبيباً يمكنه معاقبة إصدارات قادمة محلّ الإصدار الأصلي الذي كان الجميع بمن فيهم مؤلف الكتاب المذكور وكاتب هذه الرسالة يرجّح احتمال منع المشروع ورفض تسليمه وصل الإيداع في حينه. كان الأمر، في زمنه الأصلي والطبيعي، سيدو "عاديا" بالنظر إلى موْجة التضييق على الصحافة واعتقال الصحفيين وإغلاق الصحف، حينئذ. ربما كان من الحكمة اتخاذ القرار في حينه في التاريخ المحدد ومع الكتاب المحدد، كتاب "تاريخ التلاعب بالامتحانات المهنية في المغرب" سنة 2009 و2011. إن تاريخ العنف المادي والرمزي على الكتاب من حرْق وإتْلاف ومنْع تاريخ ثابت يعرفه كل قراء الكتاب وعشاقه ولكن الاعتداءات على الكتاب عبر التاريخ كانت تستهدف كتبا بعيْنِها، وعناوين محددة أو طبعات دون غيرها أو ربما اتخذت تلك الاعتداءات شكل منْع توزيع كتاب أجنبي على مكتبات البلاد وأكشاكها. أما منع كاتب من النشر، فلا اعتقد أن إدارة من إدارات أمم الأرض سبقت إدارتكم في ذلك. إنها سابقة ثقافية، سبق ثقافي يُسجّل في المغرب في حكومة 2021-2026. إن أمر معاقبة إصدارات قادمة محلّ الإصدار الأصلي يذكرني بنص قصصي كتبته سنة 2007 وعنوانه "كل حياتنا للراحة وكل مماتنا للقلق"، عن المجموعة القصصية "موت المؤلف" الصادرة سنة 2010، حيث تلعب الشخصية الرئيسية دو الميت وهو على قيد الحياة حتى إذا ما دفنه الأحياء، حاول لعب دور الحيّ وهو تحت الحجارة في قبره، مُحاولاً الصّراخ وطالباً النجدة ومنتظراً الإغاثة. والعبرة من النص المستشهد به أن الأمور تقضى في آجالها.
وفي الختام، أرجو تدخلكم، من موقع مسؤوليتكم، لوقف هذا "الشطط الإداري" الذي قُدّرَ لي أن أكون ضحيته أو أحد ضحاياه، درءاً لكل تصعيد لاحق سيضرّ حتما بالجميع.
وتقبلوا، السيد الوزير المحترم، تقديري.
---------------------
محمد سعيد الريحاني أديب وباحث في دراسات الترجمة. صدرت له أزيد من عشرين عملا ما بين إبداع أدبي (رواية، قصة قصيرة، قصة قصيرة جدا) ونقد أدبي ("الحاءات الثلاث": أنطولوجيا القصة المغربية الجديدة (في ثلاثة أجزاء). حاصل على شهادة الدكتوراه في الترجمة من مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة/المغرب (تابعة لجامعة عبد الملك السعدي، تطوان/المغرب)/ سنة 2023، وعلى شهادة الماستر في الكتابة الإبداعية (شعبة الأدب الإنجليزي) من كلية الفنون والعلوم الاجتماعية بجامعة لانكستر بالمملكة المتحدة سنة 2017، وعلى شهادة الماستر في الترجمة والتواصل والصحافة من مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة/المغرب (تابعة لجامعة عبد الملك السعدي، تطوان/المغرب) سنة 2015، وعلى شهادة الإجازة في الأدب الإنجليزي من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة عبد الملك السعدي، تطوان/المغرب سنة 1991.
وسوم: العدد 1055