شمال السودان والهيمنة الجهوية
سرف المداد
أيسر ما يمكن أن يقال في السودان، أن أصول الحكم فيه مستقرة، ممعنة في الاستقرار، فكل القرارات التي تتخذ، والنظم التي توضع، والحكومات التي تتبدل، تعود إلى طائفة محددة بعينها، والشيء الذي ليس فيه شك، هو أن معظم المكونات الاجتماعية على اختلافها، لا ترضى عن هيمنة هذه الطائفة، أو تقنع بها، أو ترضخ لها، ولست محتاجاً أن أفصل هذا الرفض، أو أطيل القول فيه، فإن معالمه واضحة ظاهرة، فهيمنة الشمال الذي لم يراعي تنوع الأمزجة واختلافها، على كل مفاصل الدولة، قد شغلت الأقاليم الأخرى، وازدادت عنايتها بها، وباتت هذه الأقاليم تفكر فيها تفكيراً متصلاً، وليس أدل من هذا الاهتمام بقضايا الحكم، غير هذه الحياة العنيفة التي نعيشها الآن، فنحن نرى أن هذا" الاهتمام" قد انتهى بنا في هذه الأيام الحالكة إلى عنف لم نعرفه من قبل، ويبدو جلياً أن بعض الأقاليم قد ثقل علىها الانتظار، وأكبر الظن أن "ملال" هذه الأقاليم، ويأسها، وقنوطها، من أن يطرح الشمال هذه الألوان السياسية المتباينة، التي تمكن غيره من أن يقف على هرم السلطة، هو الذي أدى إلى هذه التطورات الخطيرة التي قادت بعض الأقاليم لأن تستقل بنفسها، وتنأى عن الشمال، وعن احتكاره للسلطة، والشمال الذي يصارعه خصومه في التنظيمات، ويصارعه خصومه في الندوات، ويصارعه خصومه في الصحف والمجلات، ويصارعه خصومه في البرلمانات والمؤسسات، ويصارعوه أيضاً في ساحات الوغى بالحركات المسلحة والتشكيلات، هو الذي بلغ من الإجادة ببعض ضروب العلم حظاً عظيما، فدراية الشمال هي الأدق، والأوسع، والأعمق، بشؤون الحكم وغيرها من العلوم والمعارف، ولست أدري هل احاطة الشمال ومعرفته، هي التي دفعته لأن يظهر هذا التشبث، وهذا الكلف بصولجان الحكم، أم أن هذا الحرص نابعاً من ضيقه بسيادة غرب السودان عليه، وبحكامه الذين أزروا به، وجنو عليه في عهد الخليفة التعايشي، أنا أتحدث إليكم بما يخطر لي، فأنا اعتقد جازماً أن التاريخ قد جعل الشمال يحفل كثيراً بالحياة السياسية، وبالنظام السياسي، وأن هذا الحرص، والجشع، والشره بالسطوة والقياد سببه التاريخ، فالغرب والشمال متشاكسين أشد التشاكس وأقواه، والحرب التي تدور رحاها الآن تؤكد ما ذهبنا إليه من زعم، تاريخنا الحافل بالموبقات وبالدماء والأشلاء، هو الذي دفع الشمال لأن يضطرب اضطراباً شديداً، ويغلى غلياناً متصلا، ويضيق بالسلطان، ويتمرد على النظام، إذا لم ينهض فرداً من أفراده بأعباء الحكم، لهذا ولغيره من أسباب تظل عزيمة الشمال للاستحواذ على السلطة لا تعرف ضعفاً ولا فتورا.
وفي الحق أن الشمال كان خليقاً أن يحكم، وأن يقود، وأن يبلغ ما قدر له من كمال، بعد أن توطدت صلاته بالحياة العقلية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، وكان من أكثر أقاليم السودان استيقاظاً، وإسراعاً إلى العلم والرقي، ساعده على ذلك قربه من مناطق الوهج المعرفي، ودرايته الوثيقة باللغة العربية التي لا يحتاج أن يتعلمها، أو يعكف على نفسه حتى يتقنها، وتمكن الشمال من ناصية اللغة العربية التي تتحدثها الكثير من مكوناته سليقة، هي التي مكنته لأن يكون أفصح الناس باللسان حديثاً، وأجرأهم بالقلم يداً، وأسرعهم إلى المعاني نفساً، وأخصبهم بالخواطر ذهناً، كما يقول أديب العربية الضرير الدكتور طه حسين.
والشمال الذي يسر اللغة العربية تيسيرا لافتاً، ومكّن قبائل السودان المتنوعة على فهمها واستيعابها، قد ترضى عنه هذه القبائل، أو لا ترضى عنه، لأنه جعل اللغة العربية، والثقافة العربية، هي التي تسأثر بالعقل السوداني، وأنا لا أقول أن الشمال لولا أنه مكن هذا الاتصال وقواه بين السودان وبين الجزيرة العربية وحواضر العراق ومصر والشام والمغرب العربي، لخسر السودان خسارة لا سبيل إلى تعويضها بأي حال من الأحوال، ولكن الشمال من غير أي تزيد أو اسراف، هو الذي أطر لهذا الانسجام البديع الذي استقام للسودان، وقد كان هذا الأثر عظيما من نواح مختلفة، فالسودان الآن ملم ومحيط بالثقافة العربية من جميع أطرافها، وما تعلمه من شؤون الثقافة والحضارة العربية، ساعده على اتخاذ هذه الفلسفة المضيئة التي تجاوزت أطر الأدب العربي من شعر، وخطابة، ورسائل، ومقامات، إلى ثقافات كان للجزيرة العربية اتصالاً وثيقاً بها، كالثقافة الفارسية، والهندية، واليونانية، وثقافة الأمم السامية وغيرها.
واللغة والثقافة العربية مما لا شك فيه هي التي هيأت للسودان أن يتخذ له لساناً أتاح له أن يعبر به عن خصيصة نفسه، ويعصمه عن هذه الحيرة التي كان سيجدها عند اختياره لأي لهجة يتخذها وسيلة للتخاطب بين مكوناته، فمعظم هذه اللهجات متساوية في الجمود و التعقيد والالتواء، ولن تؤهل السودان لأن يكون له عقلاً يفكر، وقلباً ينبض، ونجماً يتألق في سماء منطقته، فهذه اللهجات ليس لها آداباً حية، أو أصول مترفة كأصول اللغة العربية التي لن تتعرض للجدب ولا للفناء، بل هي في الحق أصول ثابتة قابلة دوماً للزيادة والنماء، هذه الأصول لم تتأثر حتى بعاميتنا التي انحرفنا بها عن جوهر اللغة انحرافا عظيما.
والثقافة العربية التي وطد الشمال سبلها، وذلل صعابها، هي التي صنعت هذا المزاج المعتدل الرفيع، الذي يلاءم بين البيئة العربية ورصيفتها الأفريقية، هذا التناغم هو الذي أدى لهذا الثراء العريض، ولهذه المكانة الرفيعة التي يتمتع بها السودان في المحافل العربية والأفريقية، فما من حركة من حركات التضامن، والوحدة، ونبذ العصبيات بين الدول العربية والأفريقية، إلا وكان للسودان سهماً وافراً فيها، ومذللاً لكل العقبات الكبرى التي تكتنف طريقها، فالسودان أحسن الدول تقديراً لمصاب العرب و الأفارقة وما يختلف عليهما من خطوب، وسيظل السودان عنواناً لهذه الحياة الرامية للوحدة والتعاضد، نقول هذا رغم درايتنا أن واقعنا فيه الكثير مما يدعو للاشفاق والرثاء، ولكن قتامة هذا الواقع لن تفقد السودان هذه الملكات القوية التي تجعله يقاوم الشتات، والتشرذم، ما وسعته المقاومة، ويجاهد في سبيل حريته وسلامته وانعتاقه، بالسلاح واللسان والقلم، حتى يطوي صفحة الحروب والنزاعات.
وفضل الشمال على غيره من الأقاليم الذي دافعنا عنه بالحجة الساطعة، والعاطفة الصادقة، والبرهان المستقيم، لن يدفعنا لأن نقول أن تسلط الشمال قوامه الحزم والعدل، أو أنه كان حريصاً لأن يخرج الناس عن أطوار الذل لأطوار العز، فمثل هذه المزاعم المختلقة لا يحفل بها الناس، ولا يلتفتون إليها، فالشمال ألحّ في الحكم، وأغرق في هذا الالحاح، لأنه ما زال يستغرق همه في تحليل دقائق التاريخ وخباياه، فليس من اليسير ولا السهل عليه، أن يتغاضى عن تأثيراته المختلفة التي خضعت لها حياته.
ولعل من العسير جداً ألا نرد كلف الشمال بالحكم إلى تلك الروح التي تسري فيه، تلك الروح التي خضعت لمحن كثيرة من أجل أن تتوثق صلاتها بالملك، فالروح العربية إذا أردنا أن نزيل عنها الحجب والأستار، لوجدنا أن نزعة الميل للسلطة قريبة جداً منها، نحن إذاً نعرف هذا الحب الصادق الذي تحملت الروح العربية في سبيله الأهوال، نعرف أنها قد أذعنت لهذا الحب، لأنه يمنحها الحياة، ويمنحها النشاط، ويمنحها الشرف والسؤدد، ويرضي آمالها التي هي أبعد من أن تحد، وأوسع من أن تحصر، لأجل ذلك نرى أن المساومة نحو الملك، والطمع فيه، ليس قاصراً على الشمال، فكل القبائل العربية في شمال السودان أو غربه، تعاني من هذه العلة، فهي دائما تصطنع الحيلة، وتبتغي كل وسيلة، من أجل أن تستظل بأفياء الحكم، وحتى نجمل القول ونترك عنا هذا التفصيل، نزعم أن القبائل العربية على اختلاف مواقعها في السودان، لا تهاب الخطوب، ولا تعرف تردداً ولا نكولا، حتى تظفر بغايتها، وتحوز على هذه السلطة العقيمة المجدبة، أما القبائل الأفريقية، فنحن لا نستطيع أن ندعي أن هذه القبائل لا تطمع في الحكم، ولا تحبه، ولا ترتاح إليه، ولكنها لا تتورط في إثم السلطة، ولا تغرق في أوحالها، إلا من أجل أن تصرف عن جرثومتها ألوان الضنك والبين، إذن من أعسر الأشياء وأبعدها عن الشخصية الأفريقية السودانية، النافذة البصيرة، الواسعة الثقافة لأبعد حد ممكن، أن تلقي نفسها في ألوان من المحن، وضروب من الخطوب، لكي ترضي عاطفة ثائرة، أو مزاجاً حاداً، كما تفعل القبائل العربية في السودان.
والشمال الذي ذاق هوى السلطة، وتعرض للآلامها ولذاتها، على مدار حقب طويلة، يتحرج فعلاً الآن أن تذهب هذه السلطة طائعة أو كارهة لغيره، لا يتحمل الشمال الذي جدّ فيها واجتهد، وتكلف من المشقة والعناء ما يطيق وما لا يطيق، أن تجرجر هي أذيالها إلى إقليم سواه، هو ينكر هذا ويراه بعيداً، الشمال لا يستطيع أن يقتنع أن اتصاله بالسلطة، يجب أن يكون اتصالاً عارضاً، وأن نفسه المشرئبة دوماً لها، يجب أن يكفكف في حزم من غلوائها وكلفها، ويعلم أنها ستمضي على نحو قاطع محتوم لمن هو الأجدر بالنهوض بأعبائها، وإنها لن تكون حكراً عليه، على الشمال أن يخمد توقه، وشوقه، وطموحه، وأن يلتفت إلى طبائع القبائل وأمزجتها، هذه الطبائع، وهذه الأمزجة، التي تستحق أن يمنحها هذا الوطن حياة جديدة، تواكب ما وصلت إليه المعمورة من رقي وتطور، في الأنظمة السياسية الحاكمة، وفي تداول السلطة،على الشمال أن يعترف بحقوق الأمة السودانية، ويدرك أنه لن يستطيع أن يرغمها على قبول رؤيته، وأصوله التقليدية التي عرضته لكثير من المصائب، وتحمل من أجلها الكثير من التضحيات، وجعلته عرضة للوم المستمر، والبغض المتصل.
طبائع الناس التي استقصت العلوم، وتعمقت في المعرفة، تدعو إلى اصلاح الحكم وترقيته، طبائع الناس التي لا تخطئ فيما قدرت، ولن تخفق فيما تطلب، تحتم على الشمال أن يخلد إلى حياة هادئة وادعة، لا خصومة فيها ولا جدال، ولا معارك ضارية فيها ولا نزال، حياة طابعها الراحة والعافية والخمود، ويترك الحكم وعقابيله إلى عقول مستنيرة، تستطيع هذه العقول، أن تعدل وتطور من نظامنا الاجتماعي والسياسي، وتضفي عليه هذه التعديلات الوافية التي تجعل أمتنا تنهض وتخطو نحو وضع أفضل.
وسوم: العدد 1072