الخبز الفلسطيني المرّ
صور الحرب الأكثر فظاعة بالنسبة لي كانت تلك التي تحتوي على عنصر الخبز في قلب مشهد الدمار، أما خلاصة الفاجعة فستحلّ عندما يلطِّخ الدمُ رغيفَ خبز بشكل مباشر.
عندها، حتى من دون عنصر بشري في الصورة، سيأخذني الخيال إلى ربّ أسرة كان عائداً إلى البيت، حيث ينتظره أطفالٌ جياع، لكن قصفاً، أو قنّاصاً باغَتَهُ، فأرْداه، وقد يكون تبعثرَ كلّ شيء في جسد الشهيد الأب، ودراجته (هكذا أتخيل على الدوام أيضاً)، إلا قبضة اليد التي ماتت ممسكةً بأرغفة الخبز. وهنا سيعود الخيال إلى الأفواه الصغيرة الجائعة في البيت، في انتظارها الطويل.
مشهد ظلَّ حاضراً في السنوات العشر الأخيرة، إثر حرب النظام السوري على شعبه، إذ كان يتقصّد استهداف مخابز تغصّ بالناس كل الوقت، ولذلك كان مضموناً سقوط أكبر عدد من الضحايا الذين لن يتزحزحوا قبل الحصول على قوت يومهم، ولذلك ربما بالإمكان العثور على أرشيف ضخم من صور أرغفة الخبز السورية المدماة بين ركام القصف.
المشهد في غزة لن يفرق كثيراً، لقد تمكّن الغزيُّ نعيم أبو الشعر من العودة إلى بيته مع بعض أرغفة الخبز، لكنه لم يجد البيت، ولا من يأكل الخبز، على ما قال إثر الفاجعة. لقد قضى كل من في البيت، 15 شهيداً قضوا جياعاً تحت الركام.
في الحرب الإسرائيلية على غزة مُحي كل شيء، ففوق حصار 17 سنة، لم يوفر جيش الاحتلال مكاناً، لقد استهدف خصوصاً كل ملمح حيّ، بعد البشر، البيوت، المخابز، المشافي، المدارس، سيارات الإسعاف، عشرات آلاف الأشجار، الحدائق، المساجد، ولم تخفَ محاولات تضييق سبل العيش لتهجير الغزيين جنوباً، وربما خارج البلاد كلياً. وما من سبيل؛ حصار، وقصف، وتدمير كليّ، وتهجير، ثم إغلاق الطرق والبوابات. قال أكاديمي أمريكي: «لقد تجولتُ في مناطق صراعات كثيرة حول العالم، وكانت غزة هي المكان الوحيد الذي لم يُسمح لأبنائه الهروب والتحرك أمام الحرب. سدّت المنافذ جميعها في وجوههم».
جاع الغزيون إلى حدّ أنهم أكلوا البطاطا الفاسدة، وما تُنبِت الأرض من أعشاب، وعلف الحيوانات، الخبز اليابس،.. لقد شاهد العالم، في فيديو،
، الغاضبة والساخرة في آن، تتحدث عن جوع الغزيين: «بدنا ناكل، بالعربي جعنا، فش خجل، أكلنا حمّيض، الخبز مرّ»، كلمات قد لا تكفي هنا لتقديم صورة حقيقية للبنت الرائعة، لأن إيماءاتها وإشاراتها ولغة عينيها أجمل من الكلام، لأن وقفتها ومنطقها أكبر من لغة طفل، لأن لغتها أكبر من عمرها، إلى حد مخيف أيضاً.أما
، فقد مشى اثني عشر كيلومتراً من بيت لاهيا إلى حيث صادفه أحدٌ فعرف أنه تائه. قال إنه جاء بحثاً عن الطحين، جرياً وحافي القدمين، أقسمَ على ذلك برب الكعبة، لأنه «فش إشي في الدار، ولاش». لم يكن لدى يعقوب من الفصاحة ليقول: «لقد جعتُ حتى أكلتُ النوى المُحْرق، ومشيتُ حتى انتعلتُ الدم، وتمنيتُ أنَّ وجهي صار حذاء لقدمي، وما من أخ يرحم..»، كانت عيناه التائهتان، تقولان كل شيء. تقولان ما هو أفظع.كان بديهياً أن نرى من يلمّ الطحين من التراب، عملياً سيأكل التراب. وكان بديهياً أكثر أن ينتظر الغزيون من الفجر وصول شاحنات المساعدات التي تحمل الطحين، لكن ليس بديهياً أن يترصدهم الوحش لإطلاق الرصاص في لحظة إنسانية خالصة، لكن الوحش ليس من فصيلة الحيوانات هذه المرة لنقول إنه «شم الحليب، فلم يفترسه، لأن الحليب يروّض وحش الفلاة»، هذا الوحش متوحش بلا حدود، لذلك سيطلق النار ليقتل 118 جائعاً.
استهداف لا يشبهه إلا استهداف المرء أثناء الصلاة، وحده الوحش الإسرائيلي من بإمكانه فعل ذلك، كما حدث في الحرم الإبراهيم في الخليل العام 1994، عندما فتح إسرائيلي النار على مصلّين أثناء صلاة الفجر في رمضان.
اختلط الدم بالطحين مجدداً، كما حدث دائماً. من هنا أساساً، «من حبة القمح، يبزغُ فجر الحياة، وفجر الحروب». سيذهب الـ 118 شهيداً إلى الجنة جائعين، على لحم بطونهم. سنستعيد صيحة المرأة التي قالت إثر قصف أطفالها إنهم ماتوا جائعين. لا ندري أي فرق في أن يصعد الشهيد جائعاً أو شبعاناً، اللهم إلا ليدعم موقفاً عاتباً على الحياة. لقد ماتوا جائعين، لكن على من يعتبون، فمن أعطى رخصة لتدمير البيوت على رؤوس ساكنيها، على ما تقول عميرة هاس، هل سيخجل من قتل الناس جياعاً، لا يلوون على لقمة العيش، فما بالك بسلاح!
«القمح مرّ في حقول الآخرين»، طالما كان هذا صحيحاً وموجعاً، لكن لماذا يكون القمح مرّاً ودامياً في حقولنا، في أرضنا وتحت سمائنا!
وسوم: العدد 1072