«جورة الهم»: تفكيك «الصندوق الأسود» لسوريا!

يتساءل محمد أمير ناشر النعم، في مقدمة كتابه «جورة الهمّ: سوريا في زمن الأسد» (دار ميسلون) إن كان هناك أمل في اكتشاف «الصندوق الأسود» لبلاده متشككا في قدرته على حل «هذا الوطن اللغز». الكتاب، بهذا المعنى، هو محاولة ناشر النعم شديدة العمق والتميز في فك أسرار هذا «الصندوق الأسود» لسوريا!

يبتدئ المؤلف كتابه باللغة، باعتبارها تأسيسية في نشوء الظواهر العامة، والظاهرة الكبرى في الكتاب هي تطاولُ نظام الاستبداد واستشراؤه المهول ونفوذه في مسام الحياة كافة. في محاولة تحليله اللغز السوري، يختار الكاتب النموذج الألماني، منذ صكّ حزب «العمال الألمان القومي الاشتراكي» (المختصر عالميا بالنازي) بعد استلامه السلطة عام 1933 مصطلح «كلايش شانتونغ» وهو، كما يقول الكاتب، «أخطر تدبير يهدّد الإنسانية».

بعد أن كان الاصطلاح سابقا يعني التنظيم والتناسب والضبط والتجانس (مصطلح استخدمه بشار الأسد في مديح التطهير العرقي الذي حصل في سوريا) صارت معانيه الحقيقية في العهد النازي تُحيل إلى المواءمة القسرية والإخضاع، وصولا إلى الإلغاء. اتخذت النازية ترتيبات لـ»السيطرة على اللغة» بدءا من نشر المعاجم الجديدة واختراع مفردات بالمئات، ما نتج عنه تسميم الإنسان المتكلم و»مسخ روحه وعقله».

يعطي الكاتب أمثلة بليغة على هذا التأصيل التاريخي لفاعلية المفهوم، بدراسة مفردات بعينها، مثل مفهوم «المعلم» الذي راج في سوريا لدى ضباط الجيش والأمن (مقابل تحقير كلمة الأستاذ) ويعدد أمثلة فظيعة على الاستخدام الفظ لبعض الشعارات في سوريا مثل «إلى الأبد يا حافظ الأسد» و»الأسد أو نحرق البلد» ويبين عمق اختراق مصطلحات النظام لمنطق مؤسسات معارضة له، مثل تعابير «العربدة السياسية» و»الصمود والتصدي» و»في الرياضة حياة».

قديستنا العلوية والشيخ جودت سعيد

ولأن سوريا في زمن الأسد هي «جورة الهم» فإن الكاتب يحوّل قراءتها إلى هبوط في «دركات» تنتهي نزولا إلى «الحضيض». تحمل «الدركة الثانية» عنوان «وجوه في زمن المجزرة» ويختار المؤلف فيها، بحرفيّة السارد البديعة شخصيات يتناساها التاريخ العام مثل سمير قفل، الذي يمكن اعتباره أبله القرية، الذي سمع مع جمع من الناس «فرقة منشدين» على درجة بالغة من السوء فنطق حكمة بالغة بين جمع الحضور المستاء مثله قائلا للفرقة «الله يكسّر إيديكم على هالنشيد» ومثل شاب من مجهولي النسب يحاول بكل الطرق إيجاد هوية ودور له فينتهي إلى «شبيح» يُقتل في المعارك، و»مخبر مبتدئ» يحاول أن يورط الكاتب في مقتبل شبابه، ومن يسميها «قديستنا العلوية» التي هي امرأة فقيرة تبيع الخبز والفطائر، وبعد تلك الشخصيات المهمّشة يختار الكاتب بعض الوجوه الأخرى المعروفة والمؤثرة، فيقيم مقايسة قاسية مرفوعة على أس الأدب والسياسة بين ميتتي قاسم سليماني وأبو بكر البغدادي، ثم يعطي الممثلة السورية العظيمة ميّ سكاف رثاءها الجارح الذي تستحقه بنثر عظيم، ويخصّ الشيخ جودت سعيد، أحد أهم الشخصيات الداعية للاعنف في الإسلام الحديث، بامتياز كبير يشير إلى خيارات الكاتب نفسه في فهم وتطبيق الدين والفكر والسياسة.

يسمي الكاتب «الدركة الثالثة» من كتابه «التحديق في الهاوية» ويتابع فيها تفاصيل تغلغل الديكتاتورية السورية في أركان العقل والجسد والروح، بادئا من شرح عذاب الطفولة، التي كان فيها «رفيقا طلائعيا» ومفككا ظاهرة «المسيرات الخالدة» و»الأبديون الصغار والأبدي الأكبر» حين تجمّد الزمن على بضعة أشخاص يمثلون النظام لحقبة طويلة جدا، ويمرّ على «فن الإهانة» الذي يعتبره المبدأ الذي قام عليه نظام الأسد وهو فن، حسب المؤلف، تطابق مع خياري النظام للشعب: الإبادة المعنوية أو المادية.

يتابع المؤلف، في دركة «لأواء المؤدين» تجليات نظام الأسد في أوساط أشياعه ومحازبيه وأنصاره، فيرصد كره أهل النظام لسعادة الناس العادية، باعتبارها مزاحمة لها في تفردها، ويشير إلى كيف أوصلها آل الأسد إلى انحطاط مهول، ويمثّل على خيباتهم في الصناعة والرقابة على النشر، ويستخدم قصة ساخرة لعزيز نيسين عن كيف فقد الحمير لغتهم وتحوّلت إلى نهيق، مرورا بتحليل ظاهرة الحزب السوري القومي الاجتماعي في انتقاله من النازية إلى الأسدية وصولا إلى استبدالهم زعيمهم بالأسد ومشاركتهم الفظيعة في الانتهاكات الجسيمة، كما يقوم في إحدى «الدركات» بمقارنة دور رجال الدين في سوريا الذين وقفوا بشكل مخز مع النظام مقارنة بنظرائهم في نيكاراغوا، الذين أيدوا الشعب في ثورته، وينتهي هذا الفصل بتحليل تنكّر المشاركين في جرائم الأنظمة لمسؤوليتهم الفردية في تلك الجرائم.

لماذا لم تثُر كليّة الشريعة؟

يفتح الكاتب في «الدركة الخامسة» باب الثورة والمنفى والشتات، متابعا هروبه من سوريا إلى مصر فتركيا، وانتهاء بألمانيا التي يستعيد قصصها وإرثها وأدبها، فيتحدث مثلا عن القطار الألماني الذي شق طريقه في اتجاه «منافي الأرض جميعا» بعد 1938، وكيف انقلب قطار الترحيل والموت الهتلري عام 2015 «قطار أمل وبشرى» الذي فتحته المستشارة أنغيلا ميركل للفارين من بلادهم، من سوريا والبلدان المحيطة، مظهرا تشابهات فرار الألمان سابقا وفرار السوريين لاحقا.

يتابع ناشر النعم، في كتابه، أشكالا من النقد العميق لـ»أوهام الفكر الإسلامي» التي خصّص لها كتابه السابق «جدد القول» فيحلّل، على سبيل المثال، «لماذا لم تثر كلية الشريعة في حلب؟» ويفكك ركاكة شعار «قائدنا إلى الأبد سيدنا محمد» فيعتبره جريمة ارتكبت بمزاحمة وتجاذب الأسد مع النبي، وينتقد دعوات النقاوة والطهارة وما تقود إليه من تطهير وكوارث سياسية.

للكتاب معالم خاصة وفريدة تميّزه، فإلى كون الكاتب يتمتع بالمعرفة الواسعة في مجالات عديدة منها، الثقافة والسياسة والفلسفة والدين، فإن لدى ناشر النعم ملكات تعطي تميّزه بصمته الخاصة. من ذلك تقميش ونسج هذه المجالات المعرفية بطرق بديعة، وتوظيف ثقافته الأدبية في إعطاء أبعاد ثرة عميقة لتحليلاته (على شكل ما فعل في استخدام اقتباسات رواية أمريكية لاتينية في توصيف سليماني والبغدادي، وكتاب «فن الإهانة» لشوبنهاور في تحليل النظام المستبد).

استبصارات التاريخ واللغة الفذة

من ذلك أيضا استبصاراته المفيدة في قراءة التاريخ، على مثال تحليله ما فعله سليم الأول، من كسر تقليد تاريخي جليل هو الخلافة الإسلامية، لتفسير ما فعله حافظ الأسد لاحقا، وقراءته لمآل الحزب السوري القومي الاجتماعي، وانتباهته لدور اللغة في السيطرة، على شكل ما فعل النازيون والبعثيون إلخ. يضاف إلى ذلك تملّك الكاتب موهبة السرد العظيمة، والتي تتّضح في صياغة مقالاته بطريقة سردية تتميّز بالمقدّمة الجاذبة والمضمون العميق المفيد والخواتم الرائعة.

يمتاز الكتاب بلغة فذة عظيمة تساهم في جلاء أحد أهم خواص الكاتب، وهي صدقيّته العالية التي تضعه في طبقة فريدة بين الكتاب، وهي خاصيّة كبرى يمكن التقاطها بسهولة عند مقارنتها في اتجاه جارف يخترق مجالات الثقافة الأدبية والسياسية والدينية ويغلب عليه الاصطناع والتقليد والتنميطات الفكرية والسياسية، وهناك، للأسف، أعلام كبار في الثقافة العربية ممن يتصدّرون ذلك الاتجاه!

في «الدركة الأخيرة» يستذكر الكاتب مطاردة فظيعة عبثية بالرصاص تعرّض لها وعائلته من قبل جنود في جيش النظام. ستكون تلك الحادثة سبب خروجه من البلاد، وستكون مقدمة الكتاب، التي تصوّر وقوفهم عند باب الطائرة لينقذ أسرته من هلاك محتم، ليحدّق من خلف نافذتها إلى «الوطن وهو يتحطم أمام ناظري» وليتساءل إن كان هناك أمل في حل لغزه، وهو أمر قام ناشر النعم، بجلاء وبلاغة وعمق بالمساهمة في فعله.

وسوم: العدد 1092