فرحان القاضي منادياً بيبي «أبو يائير»!
قَدَرُ كايد فرحان القاضي، المحتجز الذي أُطلق أخيراً من أنفاق «حماس» بطريقة لم يكشف عنها حتى الساعة، أن يولد عام 1972 لأسرة بدوية من سكان النقب، وأن يحمل، بالتالي، الهوية الإسرائيلية.
كانت صحراء النقب، قبل النكبة، موطناً لحوالي 92 ألف بدوي، ولم يبق منهم بعدها سوى 11 ألفاً. سيطردون (بعضهم على الأقل) من قراهم، ولطالما شاهدنا وسمعنا خبراً مكرراً يقول إن قرية بدوية تُهدم مجدداً ويشتّت أهلوها.
بعض البدو، وبمحض اختيارهم، انضموا للجيش الإسرائيلي، وخاضوا حروبه، مع كل ما تعانيه مجتمعاتهم من تهميش وإفقار وتمييز
ومرة أخرى، سيكون قَدَرُ القاضي أن يكون واحداً من ثلاثمئة ألف بدوي يسكن بعضهم إلى اليوم في قرى غير معترف بها. وهذه العبارة الأخيرة ستُتَرجَمُ غياب خدمات البنية التحتية – مثل المياه، والكهرباء، والصرف الصحي، والطرق المعبّدة – وأوضاعاً تعليمية وصحية غير كافية، وقيوداً على البناء والتطوير، ما يجبرهم على العيش في ظروف سكنية صعبة ومؤقتة، ويفضي إلى تهميش اجتماعي واقتصادي، سينضاف إلى فصل عنصري هو من طبيعة التوزّع السكاني لدولة إسرائيل، القائم على الفصل الحاد بين مدن عربية مهمشة (اُنظر مثلاً مستوى الجريمة المنتشرة والمريبة في المجتمع العربي تحديداً)، ويهودية لها الحظوة والرفاه والأمن. هذا ما أُشير إليه أخيراً مثلاً مع إطلاق المحتجز فرحان القاضي، فقد كان لافتاً أن الإسرائيليين لم يحتفلوا بإطلاق الأسير العربي المسلم، على غرار ما فعلوا في مرات سابقة مع أسرى يهود.
وأخيراً كان قَدَرُ فرحان القاضي أن يحتجز على يد «حماس» في هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول إياها، ليقضي في أنفاقها حوالى أحد عشر شهراً وقتاً مملاً على ضوء بطارية شحيح، كما أفضى للإعلام، مستثمراً وقته ذاك بقراءة كتاب الله، ملل لم يُتَح لنظرائه من الأسرى الفلسطينيين في غوانتانامو إسرائيل، أو جهنمها، ونعني سجن «سدي تيمان»، الذي فضحتْه تقارير حقوقية وإعلامية إسرائيلية، قبل الغربية، وفيه يقتل الفلسطينيون ويعذّبون وتبتر أطرافهم لأبسط الأسباب، أو حتى من دون أسباب.
وإذا كانت إسرائيل قد ألزمت دروز البلاد بالخدمة العسكرية في جيشها، ولو أن ذلك ما كان ليحدث لو لم يكن هناك مطالب من قيادات درزية بُعيد النكبة بتلك الخدمة كطريقة لإدماجهم بالمجتمع والدولة الإسرائيليين، مع أننا شهدنا مراراً رفضاً من بعض أبناء الطائفة للخدمة، فقد أعفَتِ بقية المسلمين، والبدو من ضمنهم طبعاً، من هذا الواجب، إلا أن بعض البدو، وبمحض اختيارهم، انضموا للجيش الإسرائيلي، وخاضوا حروبه، مع كل ما تعانيه مجتمعاتهم من تهميش وإفقار وتمييز.
لم يكن فرحان القاضي عسكرياً، كان مجرد عامل في مصنع تعبئة في كيبوتس ماجن قريباً من حدود غزة، حيث أُسر، وقُدّر له أن ينجو، منضماً إلى قلة قليلة من الناجين، لكنه اختار (هذه المرة، كان له أن يختار، لا أن يقدّر له وحسب) أن يخاطب بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة الاحتلال بحبور، عندما هتف له أثناء إجراء فحوصاته الطبية في المشفى، ليصدر فيديو المكالمة من ثم عن مكتب نتنياهو:
– أنا رئيس الوزراء على الخط.
– فرحان، أنا سعيد جداً، بالتحدّث معك.. أريدك أن تعلم أننا لم ننسَ أحداً، تماماً مثلما لم ننساك.
لا يمكن لعبارة «بيبي أبو يائير» إلا أن تكون تودّداً طالعاً من القلب، تودّداً تعزّزه الأعلام الإسرائيلية المرفوعة في احتفالات القبيلة الممتدة في قرية القاضي. هذا في وقت ستجد أن الإسرائيليين أنفسهم سئموا كذب نتنياهو، ويتحدثون ليل نهار عن فساده، والدعوة إلى استقالته ومحاكمته، بالإضافة إلى منتقدين (ولو قلّة) لوحشية رئيس حكومتهم بارتكاب أعمال إبادة وتجويع ممنهج.
إننا نتحدث لا عن مجرد محتَجَز، فهو أيضاً شاهِدٌ على حرب إبادة يومية مستمرة دمّرت مدناً بحالها، وقتل خلالها «أبو يائير» 40738 فلسطينياً، وأصاب 94154. شاهد كذلك على استهانة نتنياهو بحياة حوالي 250 من الأسرى، رغم كل النداءات الإسرائيلية ومظاهرات عائلاتهم المطالِبة بصفقة على الفور.
لا يمكن لعبارة «بيبي أبو يائير» إلا أن تكون تودّداً طالعاً من القلب، تعزّزه الأعلام الإسرائيلية المرفوعة في احتفالات القبيلة الممتدة في قرية القاضي في النقب
قررت قبيلة فرحان، على ما يبدو، عقد حلقات الدبكة البدوية غير مكترثة بما يراق من دم على ضفّتي الحرب، وكنا قد شاهدنا في إفراجات سابقة في الضفة الغربية خَجلاً من الفرح في التعبير عن الحرية، ولطالما سمعنا من الأسرى الفلسطينيين المحررين من سجون إسرائيل لازمة تقول إن فرحتهم ناقصة، على غير ما يذهب إليه فرحان والقبيلة.
بإمكاننا أن نتخيل كيف أن 76 عاماً من إسرائيل طوّعت القابعين في ظلها، وجعلت بعضهم يقبل بما لم يكن ممكناً القبول به من قبل، بدءاً بحمل الهوية الإسرائيلية، وصولاً إلى التغني بالجنسية، والتفاخر على الأشقاء العرب بِرغد العيش في ظلال العدو.
ولكن ألم تكشف الحرب الأخيرة المستمرة أقبح ما في هذه الدولة؟ وأسقطت أقنعة وصوراً كثيرة راسخة مزعومة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة وسواها؟
ولكن على مَن تُقرأ المزامير؟ تعرفون ماذا تعني لسكان الضفة الغربية عبارة «دير بالك، هذه دورية دروز»، أو إن «جندي الحاجز من البدو»؟ تماماً، تعني أن الجندي الإسرائيلي، بكل وحشيته، سيكون أرحم من أبناء جلدتك.
يا عربَ البلاد، وبدوَها، دروزها وشركسها، هل هناك أملٌ يرتجى بعد؟ إذا لم يكن الآن، فمتى؟
وسوم: العدد 1093