رمل بن غفير ودماء الناشطة التركية

سارعت الشرطة الإسرائيلية إلى اعتقال نوا غولدنبرغ، 27 سنة، بتهمة رشق بعض الرمل الرطب في طريق وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير أثناء مروره على أحد شواطئ تل أبيب؛ ومدّد القاضي فترة سجنها، رافضاً إطلاق سراحها بكفالة، خشية «أن تعبث بالأدلة».

إلقاء الرمل على طريق وزير يُعدّ جريمة نكراء في عرف الشرطة الإسرائيلية، الجهاز ذاته الذي يقوده بن غفير ومنه يتلقى تعليمات الامتناع عن اعتقال أيّ مستوطن متطرف يهاجم القرى والبلدات والمدن الفلسطينية، بل يقرر عدم ملاحقة قطعان المستوطنين الذين اقتحموا قاعدتين عسكريتين إسرائيليتين لإجبار الجيش على الإفراج عن جنود احتياط إسرائيليين متهمين باغتصاب سجين فلسطيني.

هذه «شرطة دكتاتورية»، تعلن والدة السجينة، ليس فقط بسبب الاعتقال في حدّ ذاته بعد مرور ساعات على واقعة إلقاء الرمل، بل كذلك لأنّ أجهزة الشرطة ماطلت في تبيان مكان احتجاز «المواطنة الإسرائيلية»، ورفضت إيصال الأدوية اللازمة لعلاج أمراض مزمنة تعاني منها غولدنبرغ، وتنقلت بها من مخفر شرطة إلى آخر قبل إيداعها في سجن النساء.

ومهازل «العدالة» لدى مختلف سلطات دولة الاحتلال هي، ذاتها، التي تعد بالتحقيق في جريمة اغتيال الناشطة عائشة نور إزغي إيغي (26 سنة)، المواطنة الأمريكية من أصول تركية، برصاصة في الرأس أطلقها أحد جنود جيش الاحتلال، أثناء تظاهرة تضامن في قرية قرب نابلس. وهي وعود لن تختلف البتة عن تحقيقات سابقة وعدت بها أجهزة جرائم الحرب إياها بصدد الصحافية الفلسطينية/ الأمريكية شيرين أبو عاقلة، التي اغتالها أفراد الجيش الإسرائيلي يوم 11 أيار (مايو) 2022 في مخيم جنين.

قبل أبو عاقلة، كان جنود الاحتلال قد ارتكبوا جريمة اغتيال المواطن الفلسطيني عمر عبد المجيد أسعد (78 سنة)، فجر 12 كانون الثاني (يناير) 2022؛ ضمن ملابسات وحشية وهمجية تضمنت تقييده بالسلاسل، وعصب عينيه، وتركه ملقى على الأرض حتى لفظ أنفاسه الأخيرة. ولأنّ الشهيد كان يحمل الجنسية الأمريكية بدوره، فقد أسفرت الواقعة عن «لغط» إضافي في وسائل الإعلام الأمريكية والكونغرس والخارجية الأمريكية، فعرضت «العدالة» الإسرائيلية إياها تعويضاً بقيمة 500 ألف شيكل، رفضته أسرة الشهيد على الفور وطالبت بتحقيق دولي تشارك فيه الأمم المتحدة.

قبل أسعد وأبو عاقلة، كانت المواطنة الأمريكية راشيل كوري تخال أنّ وقوفها، ربيع 2003، أمام آلية إسرائيلية احتجاجاً على هدم بيوت فلسطينية مدنية، سوف يردع مجرم الحرب الذي كان يقود الآلية؛ فدُهس جسدها حتى آخر رمق، ودشّن استشهادُها طرازاً من الاغتيال سُجّل باسم جيش الاحتلال إلى الأبد: الموت دهساً ببلدوزر تجريف.

«عدالة» أخرى، حليفة أو صامتة أو متواطئة، أمريكية هذه المرّة؛ اكتفت، في جميع هذه الحالات وسواها، بتكليف وزير خارجية أو ناطق بلسانه أو باسم الرئاسة الأمريكية، إبداء «الحزن العميق» على الواقعة، والطلب من السفارة الأمريكية لدى دولة الاحتلال تقديم واجب العزاء؛ أو، في حالة قصوى، وضع خلاصات مكتب التحقيقات الفدرالي، على رفوف الإهمال والنسيان.

29 سنة انقضت على صدور «مابعد الأرض الموعودة: اليهود والعرب على الطريق الوعرة صوب إسرائيل الجديدة»، كتاب الصحافي الأمريكي غلين فرانكل؛ الذي ما تزال أصداء خلاصاته تتردد كلما استجدت واقعة تكشف المزيد من تضخّم مظاهر الهمجية والوحشية والعنصرية والجريمة داخل الباطن العميق لمكوّنات دولة الاحتلال، سواء على أصعدة الأجهزة العسكرية والأمنية والسياسية، أو الكثير من شرائح المجتمع العريض.

وإذْ يواصل أنصار دولة الاحتلال ترويج أكذوبة «الواحة الديمقراطية الوحيدة» في الشرق الأوسط، يتواصل انعدام الفوارق الأخلاقية والحقوقية والآدمية بين رمل بن غفير، ودماء العشرات من أمثال كوري وأسعد وأبو عاقلة وإزغي إيغي.

وسوم: العدد 1094