حديث الرجال

في مثل هذا اليوم من عام ١٩٩٩ فقدت حلب رجلا من أشداء رجالها.. الأخ الألمعي المعلم "أمين يكن" "أبو عابد"

وأعادتني غمرات النعمة والبهجة التي يعيشها السوريون هذه الأيام طبقا عن طبق، بتخلصهم من نظام الطاغية القاتل المبير، وزبانيته.. إلى فضاء الأيام الأولى من أعوام ١٩٦٣.. ١٩٦٤ وما تلاها من سنين أكاد أقول عجاف، فأعود إلى نفسي فأقول بل خصاب خصاب.. وإني امرؤ طالما أحببت أحاديث الرجال منذ كنت، حتى قلت وقد نسجت على منوال، في بعض أزمان القحط والجدب:

حدثوني عن الرجال حديثا… أو صفوهم فقد نسيت الرجالا

وسبق لي أن كتبت من قبل أكثر من مرة عن الأخ المعلم المؤسس أمين يكن، ولكنني أراني اليوم مشدودا لإعادة الكتابة عنه، في ظرف تموج فيها سورية كلها بفرحة ثورتها.. وبطريقة تذكرني بإرث أبي عابد، وطريقته في المحاكمة والتقدير والتدبير، ومواقفه المبنية على سداد ورشاد وعزيمة ومضاء فأقول وكأنني أقطف الكلمات من بين شفتيه: يا إخوة الدرب.. أيها السوريون جميعا: إن ما قطعناه من الطريق، وما حققناه من انتصار، كان الجزء الأسهل من مشروع بنائنا الوطني المهيب…فذكروا هذا ولا تنسوه..

أكتب هذه الكلمات في رحاب أستاذنا الراحل الكبير، الذي اغتالته يد الإثم والغدر في مثل هذا اليوم، والفضاء الوطني حولي يعج بالموجبات والواجبات…

وسأختزل على الرغم من أن المقام يقتضيني أن أسترسل. وما أكتبه ليس عرفانا لقائد أو معلم فقط، مع أن القائد الذي أكتب عنه يستحق التقدير والعرفان، بل سأحرص على أن أجعل ملامح من تجربة الماضي الثرة، مَعلما للسالكين على طريق اليوم والغد..

من الفهم الخاطئ الذي يحاصرني هو أنني حين أكتب عن التجربة التي عشتها في ظرفيها الزماني والمكاني، يظن البعض أنني مفتون بالخصوصية أو متعصب لها، وأعوذ بالله من ذلك، سأحكي عن حلب لأنها إطار التجربة التي عشتها، وسأنشد من خلال نشداني لإخواني أبناء حلب كذا أبناء كل مدينة وبلدة وقرية في سورية هلموا إرثكم الوطني لا تضيعوه.. ففي كل مرة أقول فيها حلب فأنا أقصد أذرعات ودمشق و حمص وحماة واللاذقية وإدلب وحماة والرقة ودير الزور والحسكة..

وفي محطتي للوقوف في ذكرى الراحل الكبير الأستاذ أمين يكن، لا بد أن أسجل في هذه الفرصة عتبي ولومي لكل الذين يظنون أن في كتابة أحدهم منشورا على الفيسبوك أو على الواتس، يخدم قضية، أو يصنع نصرا…وقد أكون أولهم في ذلك أنا.. لعلي أقتبسها أيضا من كلمات أبي عابد رحمه الله تعالى: الكتابة على أرض الواقع أبقى.

أنادي علينا جميعا وقد مضى أسبوعان على تحرير حلب: يا قطان احترق قطنك. يا قطان حمارك الأعرج في هذا الذي تستقبل لا ينفعك…

من أبي عابد رحمه الله تعالى تعلمنا ثنائية القامة والسقف..وأي قامة كانت مثل قامة أبي عابد رحمه الله تعالى…كيف أشرح لكم هذه الثنائية المحبطة في هذا المقام العجل: الابن الذي يكون أقصر من أبيه، ويكون قصاراه أنه يبلغ شأوه، أو يلامس سقفه!! كلام كثير يقال وقد وصل الماء إلى القسطل، بلغة أهل حلب أكتب!!

ومن أبي عابد رحمه الله تعالى تعلمنا كيف يستقل الرجل بالعبء "أنا بالعبء له مستقل" إذا خلت الديار ، وأصبح الكفائي عينيا، وبقيت الراية تنتظر يمين عرابة …

نعم في ستينات القرن الماضي أسس أبو عابد رحمه الله لعمل إنساني إسلامي وطني في سورية عامة، وفي حلب خاصة… وكانت بيادر الحصاد في بضع سنين ملأى بالسنابل الذهبية الواعدة في كل سنبلة مائة حبة.. ويؤسفني أن أقول: اجتاح البيدرَ إعصارٌ فيه نار!!

كثيرون طلوا يقولون لي اكتب رؤيتك للتجربة، فأجيب من بعض ما تعلمت: كيف أكتب عن تجربتنا وعربتنا ما تزال عالقة في الوحل. وهذا وعد أقطعه اليوم في ذكرى رحيل الأخ أبي عابد أن أكتب طلبا للدرس والعبرة، لا سعيا للإشادة ولا الإدانة..

في حدود معايشتي وعلمي اعتمد الأخ أبو عابد رحمه الله تعالى في سعيه المشكور، وهو في العقد الثالث من عمره، في بناء قاعدة إنسانية إسلامية وطنية، تواجه تغول حزب البعث على السلطة في سورية، في وقت خلت، الديار، وغادر قادة، وتلاشت أحزاب، وتضعضع المجتمع تحت سياط دعوات حمراء صفراء.. اعتمد على إرث خير في أكثر من بعد واقعي ملموس

البعد الأول: إرث دار الأرقم بكل رزانته وألقه ورجاله والمؤسسين.. لا أدري لماذا لا تأخذ تجربة دار الأرقم حظها من الدرس والتبيين عند وراثها؟؟

ثم إرث مرحلة الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله ببعدها الدعوي الشعبي بسقفها الذي علا.. وسمق حتى…

ثم كان له سند من الشيخ العالم العامل المجاهد عبد الفتاح أبو غدة الذي قال عن أبي عابد يوما رجل بألف، ليت لنا مثله ألف. وظل مرجعا له وسندا..

واعتمد إلى جانب كل ذلك على نخبة حيوية ألمعية من شباب مدينة حلب، كانوا له خير معين في مسعاه، وحتى لا يقال إنني أهوّم سأرمز لأسماء من يحضرني منهم، وحتى لا يظن أو يقال.. أذكّر أنني كنت في مرحلة الفتوة في الأسرة الإخوانية الأولى في ثانوية المأمون بين عامي ١٩٦٣- ١٩٦٤

وأنادي الآن على أبناء حلب من جيل الخضخضة، وليس الخصخصة، وأقول إليكم بعض أسماء الرجال ولن أذكر من جيل دار الأرقم أحدا، فأولئك لهم ديوان آخر.. الاخوة الذين ردفوا تجربة الأخ أمين يكن في بنائه المكين "ع- ج" "م- ع" "ف- ح" "ع-ع" "ع- باء" "ع- هاء" "ع- هاء" "ن - ف" ولو أردتم أن أزيد لزدت. هذا الجيل من شامات الشباب في حلب هم الذين كانوا الشركاء والأعوان…

وقد تفقدون في الأسماء المرمزة أسماء، وليس غمطا مني أنني أغفلتهم، ولكنني أتكلم عن مرحلة ربما يكون لها بعد…ويا خوفي ويا فزعي مما كان بعد

ثم اعتمد الأخ المعلم على إرثين إضافيين إرث أسرته "اليكنية" بكل عمقه وسموه. فكلمة "يكن" تشير إلى علاقة رحمية بأحد سلاطين الدولة العثمانية، وتعني مباشرة "ابن اخت السلطان" وهي نسبة تحمل ما تحمل من ظلال المكانة والوجاهة..

ثم إرثه الشخصي بما بنيت عليه شخصيته الخاصة رحمة الله تعالى، من دين وثقافة وقوة ونباهة وثبات ودفاع…

رجلان في حلب اعتقلا وعذبا ولم يأخذ أعداء الله منهما حرفا…           

الأستاذ أمين يكن.. وكانت عنده أسرار الجماعة فحماها..وأترك الاسم الثاني لسياق.

رحم الله أستاذنا وأخانا أمين يكن، وتقبله في الصالحين، ورفع مقامه في عليين..وإن كان في العمر بقية وأعان الله ووفق أرخت لستين عاما من تاريخ هذه الدعوة المباركة. وسيكون شرطي على نفسي أن أذكر الخير بصاحبه، وأذكر ما دون ذلك، دون ذلك.

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1107