غصات شامية وفلسطينية… فتوحات متخيّلة وأمنيات تنتظر الحصاد
ما زالت أحداث سوريا تملأ الدنيا وتشغل الناس في جميع أنحاء المعمورة؛ وتغطي تداعياتها، للأسف، أخبار الفظائع التي يمارسها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة وداخل إسرائيل نفسها. ففي تقرير مفصل نشرته صحيفة «هآرتس» العبرية يوم الأربعاء الفائت، بعنوان: «شهادات مقاتلين: في الغرب المتوحش، على محور نتساريم، لا توجد قوانين وكل شخص محكوم بالموت»، كشفت الصحيفة سلسلة من عمليات القتل العشوائي المروّعة، التي نفذتها مجموعات من الجنود والضباط، خاصة في منطقة «محوَر نتساريم»، راح ضحيّتها مئات الفلسطينيين المدنيين من بينهم أطفال ومواطنون كانوا يحملون الأعلام البيضاء أو مشاة عُزّل تم قصفهم بصواريخ من مروحيات عسكرية، وكيف كانت تترك جثث بعض القتلى على الشوارع لتنهشها الكلاب الضالة، أو تطمرها بولدوزورات الجيش بالرمال دون علامة أو شاهد. في جميع تلك العمليات، كان مكتب المتحدث باسم الجيش يعلن عن أعداد القتلى ويصفهم كاذبا، بالإرهابيين.
حالة من «العدمية المرَضيّة» أصابت معظم الجنود الإسرائيليين الذين شاركوا في الحرب، وما زالوا يقاتلون، والأصح يقتُلون، أهل غزة، وتحوَلوا إلى روبوتات للقتل العشوائي تتسابق على قتل أكبر عدد من الفلسطينيين
لقد انتابني شعور بالاختناق، وأنا أقرأ التفاصيل التي وردت في تقرير «هآرتس»؛ فالوقائع، كما وردت، تصف عمليا كيف تحوّل هؤلاء الجنود إلى وحوش مفترسة تتربص بكل فلسطيني يقوده مصيره أو حاجته إلى منطقة قريبة من مرمى بنادقهم، أو دباباتهم، وكيف كان هؤلاء الجنود يمارسون ما سماه أحدهم عمليات «القتل العادي»، وهي أحط المراحل التي يمكن أن يصلها الإنسان في المجتمعات المدنية.
قد لا يستفز ما ورد في هذا التقرير البعض لقناعتهم بأن أباء وجدود هؤلاء الجنود تصرفوا هكذا من قبلهم، منذ اليوم الأول الذي حملوا فيها البنادق وقاتلوا أهل البلاد الأصليين، بل واصلوا طبيعة القتل هذه في جميع حروبهم ضد العرب والفلسطينيين وغيرهم منذ أيام يهوشع بن نون والى اليوم. ولئن كان في هذا الادّعاء بعض مما يشهد له التاريخ، يبقى جديدا هذا التقرير بما احتواه من وصف وتوثيق لعمليات قتل واسعة تمت بدم بارد ودون وجود أي مبرر ميداني أو داع وقائي، وليس خلال مواجهات مع مسلحين فلسطينيين أو اقتحامات لمواقع فلسطينية، أو عمليات تمشيط احترازية.
يحتوي التقرير على شهادات مفصلة، وأسماء بعض منفذي تلك الجرائم وتشخيص دقيق لشيوع حالة من الانحلال الأخلاقي الكامل داخل تلك الوحدات العسكرية، وتخلي جميع عناصرها عن قواعد الانضباط العسكري، وعدم الالتزام ولا حتى بأبهت صورها وأضعفها، أو بتلك التي كانت مقبولة في حالات تم التعرض فيها لقتل المدنيين الفلسطينيين العزّل، فحسبما جاء في التقرير كان يكفي أن يكون قائد إحدى تلك الكتائب مستوطنا محموما حتى تصبح عقيدته الدموية أوامر تقضي «بقتل كل من يمر أمامكم. فهنا، في غزة، لا يوجد أبرياء ولا مدنيون؛ كلهم إرهابيون ومخربون ويستحقون الموت». يصف التقرير حالة لمثل هذا القائد الذي يسكن في مستوطنة كريات أربع؛ بيد أن الأمر لا يتوقف على انحراف جندي بعينه أو ضابط مستوطن، بل هي حالة من «العدمية المرَضيّة» أصابت معظم الجنود الإسرائيليين الذين شاركوا في هذه الحرب، وما زالوا يقاتلون، والأصح يقتُلون، أهل غزة، وتحوَلوا إلى روبوتات للقتل العشوائي تتسابق على قتل أكبر عدد من الفلسطينيين، أو كما قال أحد الجنود في شهادته: «لقد أدّت بيانات الناطق الرسمي للجيش حول أعداد القتلى الفلسطينيين التي نجحت كل وحدة من وحدات الجيش بقتلهم، إلى تحويل الوضع إلى مباراة بين الوحدات وللمنافسة فيما بينها؛ فاذا قتل جنود وحدة المشاة «99»، مئة وخمسين شخصا، فستحاول الوحدة الثانية أن تقتل مئتين». إنها شهادات مروّعة ودامغة على تنفيذ عمليات إبادة وارتكاب جرائم الحرب.
قد لا يحظى، للأسف، هذا التقرير، رغم خطورته وأهميته، بما يستحقه من اهتمام ومتابعة في المنابر العالمية والمحلية، بسبب ما تشهده منطقتنا ومناطق ساخنة أخرى في العالم، من تداعيات لأحداث جسام، وآخرها الأخبار الواردة من «الجبهة السورية»؛ أخبار غطّت على ما تقوم به حكومة إسرائيل على جبهات صراعها الأخرى، هذا إذا اعتبرنا أن إسرائيل سجّلت نصرا على الجبهة اللبنانية، يعتقد البعض أنه مؤقت رغم وضوحه وإقرار من يفكر بعقل سليم وبحس واقعي به، وكما تشهد عليه الخواتيم على الساحة اللبنانية.
لقد تصدّرت أخبار الإطاحة بنظام عائلة الأسد المواقع الإخبارية المنتشرة بيننا، وانشغل بها المواطنون العرب في إسرائيل وتفاعلوا معها وحللوا مشاهدها، وقيّموا ريوعها فانقسمت آراؤهم، كما في معظم الساحات العربية والإسلامية، بين مؤيدين لعملية الإطاحة بنظام الديكتاتور والتخلص من بطشه، ومتأسفين وباكين عليه؛ وفريق ثالث ينتظر ليرى نهايات ما يجري على ضفاف «بردى»، معتبرين أن مياه ذاك السيل وما ستجرفه من لواحق معها، قد تصل إلى آبارنا وتصب في حقولنا.
يتمنى نتنياهو وحكومته أن تبقى أخبار الساحة السورية متصدرة لشاشات الفضائيات العالمية وشاغلة لهواجس العرب والمسلمين، ليمضي هو في تنفيذ ما يضمره لغزة، وللضفة الغربية، ولينجز مع حكومته مشروع بنائهم لمملكة إسرائيل الجديدة. يتصارع الفرقاء بيننا ويتمترسون خلف مواقفهم وعقائدهم، فيجزم معسكر منهم أن العرب المسلمين والعالم معهم يعيشون في هذه الأيام مرحلة شبيهة بزمن «فتوحات الشام» إيّاها، ويعدوننا بأن الدولة الإسلامية أصبحت حقيقة ناجزة وهي أقرب للحقيقة من غفوة. لفتت انتباهي هذه «النبوءة»، ورأيت فيها مقاربة مثيرة كنت أتمنى أن تحث المؤرخين ليأخذوا دورهم ويدلون بآرائهم حولها، ومقارنتها مع أحداث ذلك التاريخ في زمن خلافة الراشدين، خاصة أننا نعيش زمنا لا يخلو من صراع الامبراطوريات حتى لو اختلفت عناوينه، ومازالت تقحم اسم «بيزنطة» وهي تزاحم رايات «فارس»، ورايات الشاميين تتجاذبها رايات العربان ورماح القبائل وإيلافات الأعراق والأجناس التي ورثت عن أجدادها وعاشت، أو تلك التي استجدت على المنطقة خلال الأربعة عشر قرنا الماضية.
يعرف نتنياهو أن إسرائيل تعيش في عهد صراع الإمبراطوريات؛ فهذه الصراعات لا تختفي بل تتبدل جيوشها ومصالحها؛ وهو يراهِن، كما راهن أسلافه، على تحالفه مع الإمبراطورية الكبرى وهي في أيامنا الإمبراطورية الامريكية التي قد نقارب تفاعلاتها، كيما نفهم مجريات الأحداث الحالية واختلافها عمّا كان، بتفاعلات الإمبراطورية البيزنطية، عندما كانت في قمة قوتها وبأسها. يراهن نتنياهو عليها موقنا أنها صاحبة القوة المتاحة والمصلحة الواضحة والعقيدة الصارمة. ويعرف أن غيرها من الإمبراطوريات، الفارسية المغولية/الصينية والروسية والعثمانية وغيرها، تتزاحم على تثبيت مواقعا في منطقتنا، لكن الغلبة، وهو متأكد من ذلك، ستكون في النهاية، من نصيب من يملك القوة والعزم والخطة ويقف مع المعسكر الصحيح وأمام العدو الضعيف. سأدع التعاطي مع من يجزم أننا نعيش عصر فتوحات شامية جديدة، لخبراء التأريخ والعلوم الاجتماعية، وسأعود إلى بواطن خوفي مما نحن مقبلون عليه، ليس لأن أذرع الإمبراطورية الأمريكية/الإسرائيلية هي التي تضبط إيقاع «الثورة» الجارية على الأرض السورية، وهي التي سيكون لها دور «المخرج الأول» في تحديد معالم مشاهدها ومآلاتها ووجهاتها المقبلة وحسب، بل لخوفي مما قرأنا في تقرير صحيفة «هآرتس» المذكور وحالة التدهور المستمر الذي يعيش في ظلّه المجتمع الاسرائيلي وقياداته ونخبه الحالية، العسكرية منها والمدنية.
لا يمكننا ألّا نأخذ شهادات هؤلاء الجنود على محمل الجد وتحت طائل المسؤولية، فهم، أي الجنود، يقرّون بأنهم يقتلون الفلسطينيين عشوائيا، لكنهم يشعرون بأنهم فقدوا إنسانيتهم ويعودون إلى بلداتهم بعد أن قُتلت أرواحهم أيضا! إنّهم الاستثناءات التي تثبت طبيعة المجتمع الاسرائيلي «وقيمه» ومحرّكات قادة جيشه وقياداته المدنية. لن أراهن على ما سيحدث في سوريا، فمصيرها سيبقى رهينة لنزاع الإمبراطوريات، العاتية منها والكسيحة؛ ولن يبقى أمامنا، نحن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، إلا أن نتعظ قبل فوات الأوان، وألا نراهن فقط على عدل «محكمة إسرائيل العليا» الآيلة بدورها إلى السقوط قريبا، ولا على يوم إضراب عام للمجتمع العربي تعلنه مؤسساتنا من باب اجترار المواقف وحسب؛ فهذا لا ينجينا من شر ما يحدث أمامنا ولا من مخططات هذه الحكومة، التي تعيش في هذه الأيام، نشوة نصرها الكبير وتشعر بأنها صاحبة الدور الأكبر في تغيير معالم المنطقة، أو إن شئنا، في تركيع من كانوا رعاة «محور الممانعة والمقاومة»، وحيّدوا أو تشتتوا وضاعوا على دروب امبراطوريات مهزوزة تتلمس نجاة أنظمتها أو تراوغ لضمان حصصها من ريوع «حروب الشام» الواهية.
وسوم: العدد 1108