تمرين القامشلي
بعد غياب قسري عن سوريا، بلدي، بلغ 38 سنة؛ أعود إلى مَواطن الشمال الشرقي، حيث مدينة القامشلي: مسقط رأسي، وحاضنة الطفولة، وفضاء تشكّلِ الوعي السياسي والفكري والجمالي، ومستقرّ ذاكرة عميقة الغور إنسانياً ولغوياً وبصرياً. ولست أعود إلا بفضل السوريين من الشهداء والمفقودين والغرقى والمهجّرين، وثائري انتفاضة آذار (مارس) 2011 على اختلاف ساحاتهم وأدواتهم وتضحياتهم؛ ممّن تقاسموا فضل، وفضيلة، انهيار نظام “الحركة التصحيحية”، مجرم الحرب الأسد الأب مثل وريثه.
وأجدني، كما في كلّ مناسبة تخصّ القامشلي، أستعيد صورة للمدينة لا أظنها تشبه أياً من المدن السورية: موطن كريم لأقوام من العرب والكرد واليزيديين والأرمن والسريان والآشوريين، فضلاً عن البدو الرحّل والعشائر المستوطنة؛ الأمر الذي استدعى تعدّدية أخرى كريمة، ثقافية وأنثروبولوجية، على صعيد اللغات والأديان والمذاهب والتراثات والأساطير. وكانت علاقة البشر مع المواسم الزراعية قد مكّنت المنطقة من أنساق تميّز شتى تفرّدها عن بقية أرجاء سوريا. وهذه تبدأ من واقع ديموغرافي ثنائي التركيب: الوافدون الذين قَدِموا من مناطق الداخل السوري، بحثاً عن العمل الموسمي ثم استقرّوا؛ والمهاجرون الذين هاجروا من تركيا والعراق وأرمينيا هرباً من الاضطهاد العرقي أو السياسي.
شخصياً، كنت أتكلم الكردية مع أصدقائي في المدرسة والشارع، رغم أنني لست كردياً؛ وأرطن ببعض السريانية، وبعض الآشورية، وأفهم الكثير ممّا يُقال أمامي باللغة الأرمنية؛ وكذلك كانت تفعل والدتي المتحدرة من منطقة الحسينية، على ضفاف الفرات الشرقي من محافظة دير الزور. وفي سنوات الصبا كنّا، نحن المسلمين الفتية، نستضيف أصدقاءنا المسيحيين (على اختلاف طوائفهم وإثنياتهم) في مسجد المدينة الكبير، حيث يجري الاحتفال بعيد المولد النبوي، وتُوزّع صُرَر السكاكر والملبّس والنوغا. وفي المقابل، كانوا يستضيفوننا حين تأزف احتفالات عيد الميلاد، فندخل كنائسهم لا كالغرباء أبداً، ويحدث أن نشارك في بعض شعائرهم، ونأكل ممّا يأكلون، ونشرب أيضاً!
لكنّ مختلف حكومات حزب البعث، منذ تسلمه السلطة سنة 1963، تكفّلت بالإجهاز على الكثير من أخلاقيات التعدّد الراقية تلك، أو رسّخت نقائضها عن سابق قصد معتمَد وتخطيط منهجي؛ ضمن سياستَين متكاملتين: ممارسة العديد والمزيد من أشكال التمييز ضدّ الكرد؛ واللعب على حساسيات طائفية ومذهبية بين المسلم والمسيحي، أو حتى بين المسلم والمسلم، وإيقاظ ما كان منها خاملاً نائماً، وإحياء ما اندثر وانطوى. لم يكن غريباً، والحال هذه، أن تشهد القامشلي انتفاضة شعبية في آذار من العام 2004، كانت النذير الأهمّ، والأبكر نسبياً في عهد بشار الأسد، على احتمالات التحرّك الجماهيري المناهض للسلطة، وديناميات الاحتجاج السياسي ـ الاجتماعي في الجوهر، حتى إذا كان مضمونه المباشر يخصّ حقوق شريحة محددة من المواطنين، الكرد؛ في محافظات الشمال الشرقي عموماً، ومنطقة “الجزيرة” بصفة خاصة.
وهذه بقاع تعرّضت على الدوام للإهمال والحرمان ومعاملة الدرجة الثالثة، رغم أنها “أهراء سوريا” على نحو أو آخر، وفيها تتمركز ثروات البلاد ومواردها الأساسية: النفط، والحبوب، والأقطان، في محافظة الحسكة؛ والنفط، في دير الزور؛ والكهرباء وسدّ الفرات، في الرقّة. وإذا كان التمييز البيّن يقع على مواطني هذه المحافظات الشمالية، بالمقارنة مع سواهم في محافظات أخرى، فإنّ التمييز الذي يعاني منه المواطنون الكرد أشدّ وأبعد أثراً، وهو بلغ ويبلغ مستوى التجريد من الجنسية والحرمان تالياً من حقوق التعليم وتسجيل الولادات الجديدة والسفر، إلى جانب التحريم شبه التامّ المفروض على الحقوق الثقافية والسياسية الأساسية.
وعلى سبيل المثال، والمقارنة، توفرت في مدينة القامشلي مدارس خاصة تدرّس اللغة السريانية، وأخرى تدرّس اللغة الأرمنية؛ ولكنّ المواطن الكردي لم يكن ممنوعاً من هذا الحقّ الطبيعي فحسب، بل إنّ احتفال الكرد بأبرز أعيادهم، النيروز، كان يحتاج دائماً إلى إذن خاص من السلطات الأمنية، وينتهي غالباً بتقييد وتضييق أو حظر تامّ. وقد يقول قائل إن أجهزة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، تمارس اليوم سياسات إدارة ذاتية تسلطية على عرب المنطقة وكردها في آن معاً، ذهب بعضها إلى مستويات فاضحة من التعاون مع النظام السوري، وتستقوي اليوم بالقوات العسكرية الأمريكية المنتشرة في الشمال. وهذا واقع فعلي لا يُنكر، وإنْ كان يحتاج دائماً إلى تأطير خلاصاته بمنأى عن التعميم والفرضيات الجاهزة والتنميطات المسبقة؛ خاصة أنّ ما بعد 8 كانون الأوّل (يناير) 2024 يستدعي النظر في سياقات أوسع نطاقاً وتعقيداً، كانت وتظلّ اليوم خلف صعود “قسد” أو تمكينها.
أهذه السطور، إذن، شهادة عن القامشلي مطعون في صدقيتها؟ لا أجدني أتردد في الإجابة بالنفي، لأنّ الشهادة في خصوصية هذه المدينة محطّ إجماع واسع لدى كلّ مَن أقام فيها، وكذلك لدى سواد أعظم من السوريين الذين لا يعرفون عنها إلا ما سمعوه من زائريها وأهلها.
وكما كانت انتفاضة القامشلي تمريناً مبكراً، في ضمير شعب متعطش إلى الحرّية، وفي حسابات سلطة لا ترتكز إلا على الاستبداد والفساد؛ فإنّ تكوين المدينة الفريدة يمكن أن يصبح اليوم تمريناً يستشرف صورة سوريا الأجمل: حيث التعدّد قوّة، والاختلاف اغتناء، والوطن للجميع.
وسوم: العدد 1112