حماس بين الهدى والضلال
د.مصطفى يوسف اللداوي
لا ضال إلا من أصر على الضلال، وأبى إلا أن يصد طريق الرشاد، وأن ينأى بنفسه عن سبيل الهدى، رافضاً كل نقد، متكبراً على كل نصح، سادراً في غيه، صامَّاً أذنيه، مغمضاً عينيه، معطلاً عقله، ومجمداً تفكيره، ومتقولباً على حالٍ لا يتغير، غير مبالٍ بالمتغيرات، ولا عابئٍ بالمستجدات، ولا متأثرٍ بالأحداث.
وحركة المقاومة الإسلامية "حماس" التي قامت على الهدى، وتأسست على قواعدَ من الحق، تأبى أن تسير في طريق الضلال، أو أن تنحرف عن مسار الهدى، وأن تسلك سبيل الهلاك والضياع، وأن تكون مع غير الناجين من الأمة، أو مع الهالكين من الخلق، ممن يرون الباطل حقاً، والحق باطلاً، ولا يهمهم من الحياة إلا مصالحهم، ولا يعنيهم منها إلا مكاسبهم، وما يعود عليهم بالنفع والفائدة، الشخصية أو الحزبية.
حركة حماس التي قامت على أسسٍ من المقاومة ثابتة، تعرف طريقها، وتدرك سبيلها، وتتمسك بخياراتها، وتصر على الثبات على مواقفها، وتحافظ على تحالفاتها، فهي حركة مقاومةٍ، تسعى لتحرير أرضها، واستعادة وطنها، ودحر عدوها، وتبني على هذا الثابت علاقاتها، إلا أن منطلقاتها إسلامية، وفكرها ينبع من معين الأمة الإسلامي، الذي يشكل عامل قوة، ومصدر عزةٍ وكرامة، لا تنكره ولا تتخلى عنه، ولا تخجل منه، ولا تتردد بالإعلان عنه.
حليفها كل من وقف إلى جانبها، وساندها في مقاومتها، وناصر شعبها، وانتصر لقضيتها، ودافع عن حقوقها، وضحى من أجلها، وبذل في سبيلها، وتأذى بسببها، وكان معها في مواجهة العدو، يتصدر الصفوف، ويمد المقاومة بالسلاح، ويساندها بالمال، ويصونها بالسياسة، ويحصنها بالمواقف، فلا تنسى حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، حلفها المقدس، العربي والإسلامي، الذي قام على المقاومة، وتعاهد على النصر، وتعمد بالدم، وتوحد في الميدان، وانصهر في المعركة، واتحد لدى السجان.
إن من حق حركة حماس أن تتيه وتفتخر، بأنها حركةً ديناميكية، حيوية وفعالةً، تنتقد نفسها، وتراجع مواقفها، وتحاسب قيادتها، فتمضي إن رأت أنها على الحق، وتواصل إن قدرت أن مواقفها صحيحة، وتدافع عن قراراتها ولو كانت وحيدة، ولكنها تتراجع إن أخطأت، وتعتذر إن أساءت، وتغير موقفها إن رأت أن معطياتها خاطئة، وتقديراتها غير صائبة، فهذا دليلُ صحةٍ وعافية، وعنوان سلامةٍ ورشد، فهي لا تصر على موقفٍ رأت خطأه، ولا تعاند كبراً، ولا تتصلب جهلاً، ولا تعارض مماحكة، ولا تختلف تمايزاً وحرصاً على الظهور.
وإنه لفخرٌ لأبنائها أن يكون لهم دورٌ حقيقي في قراءة الحال، وانتقاد المواقف، وتصويب المسار، ومعاتبة المسؤولين أو محاسبتهم، إذ أن هذه الحركة العظيمة، التي خرجت من رحم الوطن، ومن بين أهله وشعبه، واعتمدت خيار المقاومةِ وحدها طريقاً إلى فلسطين، فتعارفت في مسيرتها على كل من حمل البندقية معها، وآمن بالمقاومة طريقاً وحيداً، وخياراً صحيحاً، فشكرت جهده، وحفظت عهده، وقدرت عطاءه، وميزت بينه وبين المخادعين، الضالين والمضلين، الذين يزيفون الحقائق، وينقلبون على الوقائع، ويريدون حرف الأمة، نحو خياراتٍ بديلة، واتجاهاتٍ باطلة، لا تخدم إلا العدو، ولا تساند الشعب، ولا تناصر الأمة، بل تحمي العدو وتؤازره، وتتحالف معه وتتفق وإياه، وتكون في يده أداةً طيعة، تنفذ تعليماته، وتطبق توجيهاته.
تدرك حركة حماس أن عليها واجب مراجعة الذات، ونقد المواقف، وهي تعلم أن لهذه المراجعة آثاراً كثيرة، تمتد عميقاً وتنتشر في عمق الوطن وخارجه، وتترك آثارها الوطنية والقومية والعقدية على شعوب أمتنا، التي عاشت كل عمرها تناصر القضية الفلسطينية وتعمل من أجلها، ولعلها الحركة الوحيدة التي تحاسب نفسها، وتقيم مسيرتها، وتلتزم بنظمها ولوائحها، وتحترم قوانينها وتحتكم إلى قضائها.
تدرك حركة حماس اليوم، كما كانت تدرك بالأمس، أن أولوياتها هي المقاومة، وأن قضيتها هي فلسطين، وأن عدوها هو الكيان الصهيوني، وأن جبهتها هي الأمة العربية والإسلامية، التي أعطت قبل الربيع وستعطي بعده، وما كان قبل الربيع كان أعظم من أن يقدره شعب، أو ينكره فصيل، أو تتجاوزه قوة، فما أعطته شعوب أمتنا العربية والإسلامية كان عظيماً، لا ننساه ولا نتجاهله، ولا نتنكبه ولا ننكره، بل نعترف به ونجله، ولهذا فهي مع كل جبهةٍ تقاتل العدو، وتنتفض في وجهه، ولن تكون يوماً في حلفٍ يقاتل أمتنا، ويعادي أنظمتنا، وستبقى تحافظ على سياستها الذهبية، فلا تتدخل في شأن عربي، ولا تكون ضمن معادلةٍ داخلية، ولا يستقوي بها فريقٌ على آخر، ولا يتسخدمها أحدٌ لصالحه، عصا يلوح بها، أو ورقة يراهن عليها.
وتدرك حركة حماس أن من ناصر المقاومة قديماً، وتحمل في سبيلها كل الأعباء، ودفع من أجلها أفدح الضرائب كان صادقاً في توجهاته، محقاً في مواقفه، مخلصاً في منطلقاته، كما تعترف أن من تخلى عن المقاومة قديماً، ونأى بنفسه عنها، فلم ينصرها ولم يساندها، بل حاربها وخاصمها، وقطع علاقته معها، ولم يعترف بها، لهو اليوم أبعد عن نصرتها، وآخر من يثور من أجلها، أو يبدي حرصه عليها.
وإن معسكراً تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، التي تحالف الكيان الصهيوني وتنصره، وتشترك فيه بريطانيا التي كانت سبب النكبة الفلسطينية، لا يمكن أن يكون معسكر خير، ولا حلف فضول، ولا ساعٍ إلى الحق، ولا باحثٍ عن العدل، ولو كان في صفوفه دولٌ عربية، وأخرى إسلامية، توافقت معه على جملة أهدافٍ لصالحها، وظهرت وكأنها تنتصر للإنسان، وتدافع عن القيم، وتقاتل من أجل الكرامة، بينما عين هذا الحلف على إسرائيل، وقلبه على المشروع الصهيوني، يقاتل من قاتله، ويعادي من خاصمه، ويسعى لنزع أي شوكةٍ قد تضر بالكيان الصهيوني أو توخزه.
وتدرك حركة حماس أن هذا الحلف الذي استدار ليستدرك نفسه، ويقطع الطريق على ثورات الشعوب الحرة، لن تتوقف مؤامراته عند حد، ولن تكتفي بدولةٍ أو نظام، بل سيواصلون المخطط الشيطاني، وسيقاتلون كل من يشكل خطراً على إسرائيل، ولن تكون حماس بمنأى عن عقابيل هذا التحالف الماكر، فعيون المخططين والمتآمرين تتجه نحو غزة، وتتطلع إلى لبنان، تريد اسقاط المقاومة، وتعمل على تدمير مقومات الأمة، ومقدرات المقاومة، وتتربص بكل القوى الحرة التي من شأنها أن تخيف إسرائيل، وتربك حساباتها.
تعرف حماس أن ساحة المعركة باتت واحدة، وأن العدو واحد، وخصمه هي المقاومة وإن تشكلت قوىً وأحزاباً، ودولاً وأنظمة، أو تباعدت مسافاتٍ وتشتت أوطاناً، فهي بمقاومتها العدو، وهي بقوتها الخطر، وهي بوحدتها تصنع النصر، والعدو يتربص بالمقاومة كلها، على اختلاف صنوفها وطوائفها، وأياً كانت أفكارها ومذاهبها، فهو يعرف أنها مصدر الخطر عليه، وأنها من تترصده وتتعقبه، وأنها وحدها من قد تنال منه وتؤذيه، وأنها المشروع الصادق، والبديل الحق، الذي تشكل فيه حماس رأس حربة المقاومة، الوطنية والإسلامية.
أما وإن حماس قد أدركت هذه الحقائق، وعرفت هذه الغايات، وتنبأت بكل هذه المآلات، فلا عيب عليها إن هي راجعت نفسها، وانتقدت سياستها، وقدرت أين أخطأت ولماذا، وهل يمكنها الاستدراك وإعادة التصويب، وهي بذلك محقة، وإن لم تكن قبلها ضالة، فهي بهذا النهج على طريق الرشاد، وعلى هدي الصالحين.
أما أن يعيب عليها البعض قدرتها على التوقف والتقاط الأنفاس، ويحرمها من حقها في الاستجمام والمراجعة، والتقدير والتقييم، ويطلب منها الجمود والانتحار، أو الأسف والاعتذار، فهذا لعمري لا يحب المقاومة، ولا يخلص لفلسطين، ولا يخدم أهلها، ولا يهمه شعبها، بل يقف في خندق أعدائها، وينفذ سياسة خصومها، ويريد أن يحرم الأمة من قوةٍ عظيمةٍ كانت لها.