سأكتب هذا في قلب الليل

في الوقت بين القيام والتهجد..

سأكتب عن بعض مناجم الكتب في حلب، التي تحن روحي إليها..

نادي الضباط في حلب..

وعن يمينه وشماله مناجم الكتب الجامعة لمخلفات دور النشر اللبنانية…وأمامه مكتبة الفجر…

وأكتب هذا مقدمة لمقال أحضره: احذروا طلب العلم على حرف كما تحذرون عبادة الله على حرف..

أولا طمنوني عن تلك الأقبية، بل مناجم العلم أما تزال ذاخرة بكنوزها.. تزدلف ثلاث دركات إلى الأسفل، وتحار ماذا تحمل من روائع الفكر، وكنوز الأدب العالمي، والكتاب بليرة أو ليرتين، فإن عززت علاقتك بصاحب المكتبة، وثقّلت الشيلة قليلا يعجبه أن يقول: الشيلة بعشر ليرات.. تعد أنت وهو لايعد…!!

لا أخفيكم كنت أرى العالم من خلال ذخائر تلك المكتبات..

تسمر مع "هكذا تكلم زرداشت" للمجنون الألماني نيتشة.. أو تستمع بإصدارات مؤسسة فرانكلين الأمريكية أيام الحرب الباردة، وهي تخوض حربها ضد السوفييت، فتقدم لك الكتاب كلفته عشرة دولارات بل ربما عشرين بدولار أو دولارين..

وعلى الرصيف المقابل لنادي الضباط كانت مكتبة الفجر..وما أدراك ما مكتبة الفجر؟؟

المكتبة التي كان يحلو لبعض زملائنا أن يعبثوا بصاحبها حتى يخرجوه عن طوره..

فهي مكتبة خاصة بالفكر الماركسي السوفييتي أعني الشيوعي، يدخل عليه فتى يلبس ثياب الفتوة، يسأله: هل أجد عندك تفسير في ظلال القرآن لسيد قطب؟؟ يهز الرجل رأسه: لا.. فيخرج الأول، ويدخل آخر بعده مباشرة: أعطني نسخة من كتاب: معالم في الطريق، يتبعه الثالث أعطني نسخة من كتاب جاهلية القرن العشرين.. فينفجر الرجل مع قلة الزبائن في وجه السائل الأخير.. ويخرجون يضحكون عبث أو مناكدة فتيان مراهقين!!

ومع ذلك كنت إذا دخلت عنده، تنفرج أساريره، ويعلم أنه قد أصاب رزقا في ذلك اليوم، فأحتمل كتب القوم وأمضي، أتذكر أنني قرأت كتب روجيه غارودي وهو زعيم الحزب الشيوعي الفرنسي قبل أن ينشق عن حزبه، وكتاب ثورة في الثورة لروحية دوبرية.. واشتريت الأعمال الكاملة للينين، ولم أستطع قراءتها لسوء الورق الذي طبعت عليه!!

من مآثر المكتبات الخاصة بي مكتبة العم ابو العبد

في الزقاق الملاصق لساحة المطران فرحات، أمام كنيسة الروم الكاثوليك، مخلفات مكتبات فرنسية لعلها من لبنان، أو إرساليات تبشيرية. تشتري النسخة من سلسلة "كلاسيك" بليرة فتحصل على "فابل" لافونتين، الحكايات على ألسنة الحيوان. وتأملات لامارتين، ومسرحيات فولتير وأزاهير بودلير.. ببضع ليرات. العم أبو العبد أيضا عصبي، وصاحب مزاج..

-لا تخربط الكتب، صرلي ساعة بطبق..

بدي أتفرج يا عم أبو العبد

يا عمي قللي شو بدك وأنا بعطيك!!

بدي أتفرج.. !! يحمل بيده طبقتين من الكتب يضعها على الدزكة ويقول، تفضل تفرج..

ومن أجمل مناجم الكتب في حلب، مكتبة الشيخ العصملي في المستدامية، وهو من عادته أن يفرش كتبه على الرصيف، ولكنني أعرف مخزنه الذي يحوي تراثا من الكتب الأقدم، كتب عربية من طبعة بولاق الحجرية، وكتب تركية باللغة العثمانية، وكتب فارسية..

وهذا الشيخ العصملي بالطربوش والزباتية، الذي لا أعرف اسمه هو الأشد نزقا..

بمجرد أن أطل عليه يحوقل يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم .. يبادرني ما بدي أشتغل اليوم..

وعليك أن تظل تسامره وتناغيه حتى يسمح لك أن تقترب من رف من الرفوف: يؤكد عليك: تعيد كل كتاب لا يعجبك إلى مكانه وأنت تقول بخضوع حاضر حاضر وترمي الشبكة كأنك تبحث عن صيد، ولا بد أنك في كل مرة تصيد..

وصدت مرة من مكتبته ديوان المثنوي المعنوي لجلال الدين البلخي باللغتين: الفارسية الأصلية والترجمة إلى اللغة العثمانية.. وكنت أتهجى بعض السطور على طريقة تكسير الأحجار..

ثم قابلت زميلا لي في الخدمة الإلزامية، كان من الإخوة التركمان، أخبرني أن عنده قاموس فارسي- عربي، فلما أطلعني عليه اشرأبت روحي إليه، فراودته عنه بيعا فأبى، وزدته فضن.. ثم أطلعته على تحفتي فجن بها، وهو تركماني من منطقة الساحل، ويقرأ اللغة العثمانية، وعلقت معي الشبكة، يسألني وماذا تنتفع أنت بهذا الكتاب؟؟ وأقول له: هو أثير عندي.. فما زلت أتمنع وأبذل حتى استنزلته عن المعجم الفارسي - العربي وهو معي هنا في لندن..

لا تظنوا أن حامد عجان الحديد رحمه الله تعالى كان أقل مزاجا..

ظللت أغدو وأروح على مكتبته خمس مرات، حتى باعني نسخة من شرح الدسوقي على مغني اللبيب؛ يجتهدون في أن لا يقع الكتاب في يد من لا يعرف قيمته!!

صحيح الآن في حلب موسم غزل البنات الرمضانية، غزل البنات بالجوز والفستق والقيمق، وياما غزلوك في الليالي يا غزال البنات، حرير وشعرو طويل يا غزل البنات…

وصحيح الآن موسم اللبا وأم النارين والقطايف باللبا وصحيح الآن موسم النرجس المفرد والمضعف، "المحلى زمانو"

ولكن من الظلم لحلب ولأهل حلب أن تختصر مدينتهم بالقلعة وبالمحاشي والكبب…

في حلب تأسست أول مطبعة في الشرق يا عباد الله..

ولم تكن حلب وقفا على المتنبي والفارابي وابن جني بل كان فيها الكاساني صاحب البدائع شارح تحفة السمرقندي..وكان فيها ابن السمين الحلبي صاحب إعراب القرآن، وكان فيها ابن يعيش شارح المفصل للزمخشري…

ومقالي هذا مقدمة لمقالي: لا تطلبوا العلم على حرف. بل أفيدوا من كل علم ومن كل فن بطرف..

ومن طلب العلم على حرف كان كمن يعبد الله على حرف..

لا تعادوا الناس في أوطانهم

قلما يرعى غريب الوطــــــــن

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1120