إن الشيء بالشيء يُذكِر
في سبعينات القرن الماضي، كان رجل ممن عرفنا، يخدم التجنيد، في مركز المخابرات في عمارة الأوقاف في حلب…
هو كان مجرد عابر سبيل، فكنا أحيانا نخالطه ونمازحه، ويحكي لنا..
كانت مهمته عنصر طيار، يحضر خطب الجمعة ونحوها، ويكتب الملخصات، وإذا شئتم التقارير، وكان يقسم لنا الأيمان أنه لم يكن يحرض على خطيب مهما قال.
تكويعة:
ومرة سمعت أحد الخطباء على المنبر ، ينادي على المخبرين في خطبته: عجلوا إلى الصف الأول، هاتوا معكم أجهزة التسجيل، لعل من فوقكم يفهم كلامي أكثر منكم، فلا يتعبني بعد بالاستفسار عما قصدت..
وأعود…
يحكي لي الصاحب، أنه اعتمد طريقة جهاز التسجيل، فكان يقول له معلمه: اذهب ولخص الخطبة في تقرير، وإذا في شيء مهم، ضع تحته خطا أحمر..
حتى الآن حكايتي عادية..
مرة صادفته يوم اثنين، أنفه أحمر متورم، والأفُ يسيل منه، وصوته يكاد يخنقه السعال..
قلت له خير.. خير ما القصة، وكنا في قلب الكوانين، في حلب نقول عن كانون "كانون كن في بيتك يا مجنون"
قال اسكت: يوم السبت كلفت بمراقبة الكنيس اليهودي الذي في الجميلة، أنا لا أعرف حتى الآن أن يقع الكنيس، وحُدد لي موقفي على بعد 200 متر، قالوا لي فقط انظر إذا دخل إلى الكنيس شيء غربب، ولا تقترب أكثر….
فقتل صاحبنا البرد وهو في موقف؛ كان حافظ الأسد مهتما بأن لا يرتفع تقرير إلى واشنطن عن انتهاك حرمة المعابد…!!
هل أنا قلت شيئا.. هل فهم عليّ أحد شيئا، دائما يقولون لي : ما فهمنا شي!!
وأنا على يقين أن الذين يفهمون لا يشتغلون كتيبة تقارير!!
خاتمة: تذكرون على زماننا كان في اسكتش إذاعي لمطرب شعبي لبناني، أظن اسمه نصر الدين، وغالبا يسمى نفسه: مخول..
كان ينادي في السكتش
عندي دوا للذكا ومعبا بظروف
حبة بيشربها اللي ما بيفهم بصير فيلسوف..
تكويعة..
مو حلوة ترسيم الحدود بين سورية ولبنان، مو حلو بنوب!!
يا خيي إذا ترسمت الحدود كيف كانت فيروز ستخرج من الكانتون؛ وتغني لنا:
شآم أهلوك أحبابي وموعدنا
أواخر الصيف آن الكرم يعتصر
أو كيف كان سنسمع صوت وديع الصافي
الله يرضى عليك يا ابني..
عزيتونة والجبنة…
وهذا اعتراف في اليوم الأخير من رمضان،
نشأت والحمد لله على فقه: من استمع إلى قينة صب في أذنيه الآنُك يوم القيامة، لم أكن صاحب غناء، ولكن كنت إذا وصلني صوت من بعيد، أشجاني..
مرة في قلب الليل، وفي ليلة شتوية: ومع إغلاق الأبواب والنوافذ، اخترق عليّ صوت بعيد:
ما لي أحدق في المرآة أسألها
بأي ثوب من الأثواب ألقاه؟؟
ولبسني الحال أو لبسته.. كنت ربما في السابعة عشرة.. والآن وأنا في السابعة والسبعين، ما زلت أحدق في المرآة أسألها: بأي ثوب من الأثواب ألقاه؟؟
ويل لمن لم يرحم الله. سيد الخلق قال: إنه لن يدخل الجنة بعمله، وأضاف: إلا أن يتغمدني الله برحمته…
لا تشد على حالك كثير يا زهير بينقطع الحزام،
قلت لكم أنني لم أستمع إلى الغناء قط، كان أحد شيوخنا رحمه الله تعالى: يميز بين السماع والاستماع، ويوصينا: مو كل ما طلعت في سرفيس بتساوي مشكلة!! وكان آخر يقول: بتشرط عليه يطفي الراديو، وإذا لم يفعل بتنزل.. رحم الله الشيخين، خلوا الأمور سماح…
أتابع الاعتراف إلا أنني في السنة الأولى تهجير نعم كنت أستعين بالاستماع على البكاء!! والبكاء شكل من أشكال التعبير يا قوم، ونحن نعيش في عصر حرية التعبير. مشكورون الذين منحونا هذا الحق!! ولم ينغصوه!! محمد إقبال يقول: لا بد للمحزون من فيضان.
وكنت أجد في البكاء بعض الشفاء..
اسمعوا وأنا ما زلت منذ ما يقرب من نصف قرن، إذا تقلبت في فراشي عند السحر، أسمع صوت التسبيح من جامع بانقوسا:
يا حي يا قيوم .. ياذا الجلال والإكرام.. سبحان الواحد الأحد.. سبحان الفرد الصمد .. سبحان من بسط الأرضين على ماء جمد..
وما زلت كلما سمعته يذكر هذه الأخيرة أقول له: بلاها هي مو صحيحة، ولكنه لا يسمعني كما أسمعه..
نعم وليس من واجبكم أن تصدقوا.. المهم أنني أنا الذي أسمع، وأنا الذي يبكي، وأحيانا أوقظ أم العيال؛ فأسألها: هل تسمعين ما أسمع، أو أقول اسمعي هذا الصوت البعيد.. فترد عليّ لا قوم صلِّ لا رجاع نام…
كان عندي موضوع آخر ولكنكم شاغبتم عليّ
وأنا ما قلت شيئا.
وأختم مهنئا الرئيس أحمد الشرع بالعيد، داعيا له بالحفظ والتوفيق. اللهم يسره لليسرى، وجنبه العسرى
وكل عام وسورية وشعبها وناسها بألف خير…
وسوم: العدد 1122