دعوة إلى القراءة
د. لؤي عبد الباقي
عندما نزل جبريل عليه السلام لأول مرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في غار حراء، أول كلمة من وحي الله كانت كلمة "اقرأ". ولكن جبريل عليه السلام، عندما بلّغ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بهذه الكلمة التي تتضمن أمرا ربانيا بالقراءة، لم يناوله ورقة أو كتابا أو لوحا عليه كتابة ليقرأ ما فيه!
فماذا يقرأ؟ وبأي وسيلة يقرأ؟
لم يدرك النبي (صلى الله عليه وسلم) للوهلة الأولى أبعاد هذه الإشارة الربانية البليغة، فهو لم يكن على علم مسبق بأنه يخاطب ملَكاً أتاه بالبلاغ الرباني، من هنا كانت إجابته (ما أنا بقارئ!) تدل على ارتباك وحيرة! ولذلك كرر جبريل الكلمة نفسها ثلاث مرات قبل أن يكمل الآيات التالية: (اقرأ باسم ربك الذي خلق...). عند ذلك أدرك النبي أن الأمر بالقراءة لا يتعلق بفك رموز أحرف وكلمات مكتوبة، مع أنه حتى ذلك الحين لم يدرك أبعاد ذلك الأمر ولم يعرف أن الله تعالى قد اختاره لتبليغ رسالته المقدسة إلى العالم.
ولو تتبعنا الروايات المتعلقة بأحداث السيرة النبوية لوجدنا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يحاول تنفيذ ذلك الأمر الرباني (اقرأ) من خلال السعي لتعلم القراءة والكتابة. وبالمقارنة مع الأمر (الوحي) الثاني الذي جاء في سورة المدثر: (قم فأنذر)، نجد أن النبي هنا نفذ بالمعنى الحرفي.
لقد أدرك النبي (صلى الله عليه وسلم) أن القراءة تعني الفهم الشامل والعميق لأبعاد مهمته الربانية، والتي ترتبط بثلاثة جوانب:
1. فهم الخطاب (الرسالة) الموجه إليه.
2. وفهم نفسه أو دوره وعلاقته بالخطاب (كمبلِّغ).
3. وفهم الواقع والعالم المحيط به (مجال التبليغ).
والأحداث المباشرة التي جرت بعد ذلك تدل على هذه الأبعاد الثلاثة؛ ذهابه إلى ورقة بن نوفل لتفسير ما جرى، وخوفه على نفسه (قوله لخديجة رضي الله عنها: إني خشيت على نفسي)، وكذلك بعد فترة انقطاع الوحي حيث ظن أنه ربما ارتكب خطأ حرمه من شرف الرسالة، ثم قلقه من تنبؤ ورقة بموقف قومه الرافض وإمكانية إخراجهم له وطرده..
كل هذه الأحداث مجتمعة، والتي جرت في وقت قصير، تدل على أن كلمة (اقرأ) دفعت النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى التفكر في هذه الأبعاد الثلاثة، لا إلى تعلم القراءة لتنفيذ الأمر بعناه الحرفي الظاهر.
لقد تخلف الكثير من المسلمين عن فهم البيان الرباني (القرآن) وعن الاستفادة من الحكمة النبوية. فمازال الكثير من المسلمين يفهمون قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" على أنه دعوة إلى مجرد تعلم كيفية التلفظ بآيات القرآن وتردادها دون الالتفات إلى ما تحمله من رسائل وتعاليم تتعلق بالنفس البشرية وبحياتها وجوهر وجودها ودورها على هذه الأرض!
لقد تعلم جيل الصحابة (رضوان الله عليهم) القرآنَ، دون أن يتعلم معظمهم القراءة والكتابة، ونجحوا في تحويل تعاليمه إلى واقع ملموس، فحرروا أنفسهم وعقولهم من الاستلاب الفكري والتعصب القبلي والانقياد الأعمى لموروث الآباء والأجداد، ومن ثم انطلقوا في الآفاق الرحبة، ففتحوا البلاد وحرروا العباد. في حين نجد أن معظم المسلمين اليوم قد أتقن القراءة والكتابة كما لم يتقنها جيل من الأجيال السابقة، ولكنهم فشلوا فشلا ذريعا في تعلم القرآن، فضلا عن إخفاقهم في معرفة كيفية تطبيق تعاليمه السامية في واقعهم المعاصر!!!
كانت هذه الحقيقة غائبة عن ذهني عندما كان الواقع السياسي المتدهور لهذه الأمة يشغل معظم تفكيري في السابق، ويصرفني عن كثير من القضايا الاجتماعية والمشكلات السلوكية لأفراد المسلمين، وكنت أرى أن تلك المشكلات الفردية والاجتماعية مجرد انعكاسات للواقع السياسي المتردي، ما يعني أن الاصلاح الحقيقي يجب أن يبدأ من اصلاح المؤسسات السياسية. وقد كتبت كتابا (باللغة العربية) حول أصول ومراحل تطور الفكر السياسي الإسلامي، ثم أردفته بكتاب (باللغة الانكليزية) حول الواقع السياسي للمجتمعات الإسلامية المعاصرة. هذا فضلا عن عشرات الأبحاث والمقالات والمحاضرات (باللغتين العربية والانكليزية) التي تعالج القضايا السياسية المعاصرة، إلا أنني بعد التجربة والبحث والتأمل وصلت إلى نتيجة واضحة وجلية، وهي أن الإصلاح السياسي الذي لا يسبقه (أو يرافقه) إصلاح منهجي وشامل في كافة المجالات الأخلاقية-القيمية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية إنما هو مجرد أداة تجميل لوجه جسمه عليل وعقله سقيم ونفسه مضطربة!!!
الأمة اليوم تعاني من أمراض خطيرة، وليس من مرض واحد! وهي أيضا تواجه تحديات هائلة، داخلية وخارجية..تعاني من أمراض في القلب والعقل، ومن أمراض روحية وفكرية، ومن أمراض جسدية ونفسية. كما يواجه تحديات تشابكت خيوطها وأطرافها بين الداخل والخارج، فأصبح للأعداء الخارجيين وكلاء في الداخل ينفذون مشاريعهم التخريبية نيابة عنهم.
أيها الاخوة
لقد جئنا جميعا إلى هذه البلاد في أستراليا من مجتمعات إسلامية لا تحمل من الإسلام إلا القشور والأسماء، مجتمعات تعاني من كافة ألوان الفساد، السياسي الاجتماعي والاقتصادي والفكري والأخلاقي..
· فكيف ومن أين نبدأ، كمسلمين أستراليين، بإصلاح واقعنا وجاليتا ومجتمعنا؟
· كيف نبني مستقبل أبنائنا من الأجيال المسلمة القادمة في هذا البلد؟
يجب علينا أن نبدأ كأفراد مؤمنين مستقلين، وكمجموعات متنوعة متعددة، وكأمة واحدة متماسكة، في وقت واحد وبشكل متزامن..لذلك يجب أن يكون لدينا تصور عقلي ورؤية مستقبلية واضحة تنطلق من فهم شامل وعميق لرسالتنا في هذه الحياة.
· كأمة واحدة متماسكة: ننطلق من رؤيتنا المشتركة والشاملة حول الكون والإنسان والحياة..
الكون الذي كونه الله تكوينا متوازنا دقيقا ومتقنا بشكل يوفر لنا جميع أسباب الحياة. والإنسان الذي استخلفه الله في هذه الأرض لإعمارها وبناء حضارتها وفق القيم والمبادئ الربانية. والحياة التي منحنا الله إياها وجعلها فترة امتحان عملي هادف ومسؤول؛ عمل يهدف إلى الخير في الدنيا ويستعد للمساءلة والمحاسبة في الآخرة.
· كجماعات ومنظمات متعددة: ننطلق من مصالحنا المشتركة التي لا يمكن أن تتحقق إلا بالتعاون والتنسيق والشعور بالأخوة ووحدة المصير، وبالتنافس على البر والتقوى، لا بالتنازع والتآمر المدمر والمشتت للجهود المبدد للطاقات..
· كأفراد مؤمنين مستقلين: ننطلق من إيماننا الصادق بالله ومن التزامنا بقيم ومبادئ ديننا الحنيف، ومن إخلاصنا في أقوالها وأفعالنا، فنجاهد أن لا نكون ممن يقول الله عنهم:
"ياأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقوقوا ما لا تفعلون".
علينا أن نؤمن بهذه الرؤية أولا، ومن ثم نحولها إلى واقع ملموس وحقيقة موجودة على الأرض.
أيها الاخوة:
هذه المحاضرة اليوم تلخص رؤيتنا المنهجية ومشروعنا الاستراتيجي العملي في معهد الحكمة الذي هو جزء من مؤسسة "مركز لقمان للأبحاث والتربية الإسلامية"، والذي يهدف إلى بناء وتطوير مؤسسة تربوية-تعليمية-بحثية شاملة تتضمن أول جامعة إسلامية في القارة الأسترالية إن شاء الله.
لذلك فإني انتهز هذه الفرصة لأوجه الدعوة إلى جميع إخواننا المسلمين، مؤسسات وجماعات وأفراد، داخل أستراليا وخارجها، ابتداءا من هذا المسجد ورواده الذين أحببتهم وأحبوني بصدق، للتعاون معنا والمساهمة في بناء مستقبل أبنائنا في هذا البلد. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعا إلى العمل بإخلاص وصدق وتعاون، لنترك شيئا نافعاً لمستقبل أبنائنا وجاليتنا، ومنقذا لنا يوم لقاء ربنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أبوابنا مفتوحة للجميع ونطلب من الجميع التعاون معنا، لا نقصي ولا نستثني أحدا، فهذا المشروع الإسلامي لجميع المسلمين وليس لمجموعة مذهبية أو عرقية أو قومية.
لدينا حاليا مجلس إدارة من خمسة عشر فردا، من خلفيات متنوعة، معظمهم مستقلون وبعضهم يمثلون ثلاث مؤسسات، كجمعية مركز الرعاية الإسلامي الأسترالي، وإذاعة القرآن الكريم، ومؤسسة الثقافة الإسلامية الاسترالية التي يرأسها فضيلة مفتي القارة الأسترالية الدكتور ابراهيم أبو محمد. ويتضمن المجلس دعاة ونشطاء وأكاديميين وخبراء متخصصين في المجالات الإدارية والتربوية وغيرها.
كل من يجد في نفسه الرغبة في المساهمة سواء المادية أو العملية، يمكنه الاتصال بي شخصيا، أو بأحد أعضاء مجلس الإدارة المذكورة أسماؤهم في موقعنا على الشبكة.
*هذه المحاضرة ألقيت باللغة الانكليزية في المسجد الرئيسي لمنطقة كامبل تاون (منتو) في سدني، وذلك يوم الجمعة 12/04/2013.
*الدكتور لؤي عبد الباقي مدير معهد الحكمة للدراسات العربية والإسلامية