الإعلام والتغيير
د. ياسر صابر
إن الغرب لا يمل فى صراعه مع الإسلام ، وقد أبدع فى إستخدام الوسائل والأساليب التى تمكنه من حسم هذا الصراع لصالحه ، فبعدما ضاقت الأمة بالإستعمار الغربى ولفظت وجوده بينها وعلى أرضها ، إفتعل الغرب الثورات بإسم التحرر والإستقلال فى منتصف القرن المنصرم حتى يُسلم الراية إلى الجيوش الجديدة من العملاء الذين نصبهم حكاماً على بلاد المسلمين ، ليقوموا بأداء المهمة نيابة عنه.
وبعدما ذاقت الأمة ويلات العذاب تحت حكم هؤلاء الرويبضات ، خشى الغرب من إنتفاضة الأمة عليهم ، فأستحدث إسلوباً جديداً ليمتص به غضب الأمة وكان هذا عن طريق الإعلام الذى أنشأه وأنفق عليه المليارات ، وكان الدور المنوط بهذا الإعلام هو إبعاد الأمة عن التفكير المنتج الذى يؤدى إلى التغيير الحقيقى .
إن الإستراتيجية التى قام عليها هذا الإعلام هى تضليل الأمة بقدر المستطاع وتحقيق مالم يحققه الإستعمار العسكرى ، أو سياسات العملاء الذين تسلموا الراية من الكافر المستعمر ، وقد إتبع هذا الإعلام أساليباً شتى لتحقيق هدفه ،
فحصر الرأى والرأى الأخر فى إطار المنظومة العلمانية أما الرأى الثالث الصحيح الذى يعبر عن هوية الأمة فقد حجبه ومارس عليه سياسة التعتيم ، وفى الوقت الذى لاحقت فيه عدساته كل مغمور ، فإن نفس العدسات تصاب بالعمى إذا تعلق الأمر بعظام الأمور حتى لو شكلت من الناحية المهنية سبقاً صحفياً تلهث وراءه أى وسيلة إعلامية . كما عمد هذا الإعلام إلى دغدغة مشاعر الأمة بالغوص فى مشكلاتها والصراخ على آلامها دون تقديم حلول ، ففى الوقت الذى تعرض فيه للحكام فى أشخاصهم لم يجرؤ على المساس بأسيادهم . وقام هذا الإعلام بطرح الثوابت للنقاش حتى يخرجها من قطعيتها إلى مجرد أراء يمكن أن يُختلف عليها .
ومنذ أن قامت الأمة بثورتها المباركة ، تعاظم دور الإعلام فى التضليل لأن هذه المرحلة تمثل له ولمن يقف خلفه صراع وجود ، فخرج فى ثوب المحتضن للثورات وصال وجال هنا وهناك ، وقد إستطاع بالفعل أن يوهم الكثيرين ، أنه إعلام يتبنى قضايا الأمة ومشاريعها . ولكنه إستمر فى تضليله بمحاولاته الدؤوب تصوير هذه الثورات بأنها ثورات علمانية ، وقد تناسى أن الملايين الغفيرة التى ملأت الميادين والشوارع قد خرجت من المساجد مكبرة مهللة .
ولم يقف الأمر عند هذا بل تجاهل عن قصد ومع سبق الإصرار والترصد رايات رسول الله التى رُفعت فى الميادين سواء فى شوارع تونس أو ميادين مصر أو التى مازالت مرفوعة فى الشام ، بل وصل الحقد بهذا الإعلام أن يُحرف الكلم عن مواضعه حين إختار ثوار سوريا شعاراً لإحدى جمعهم بعنوان " إن تنصروا الله ينصركم " ويأبى الإعلام إلا أن يسميها " جمعة التدويل " .
إن هذا الإعلام يحاول جاهداً تلميع العملاء ليقدمهم للناس على أنهم قادة ، أما القادة الحقيقيون للأمة فمصيرهم التجاهل ، لأن السياسة التى صاغها سادة هذا الإعلام تقوم على التعتيم على من يحمل مشروعاً لنهضة الأمة على أساس الإسلام .
إن من يتابع الإعلام فى الغرب والإعلام فى بلادنا لايجد أى فرق بينهما وهذا يرجع إلى أنهما خرجا من مشكاة واحدة وأن العقل المدبر لهما يجلس فى حصونه التى شيدها فى لندن وواشنطن وباريس ، ينفق المليارات ويحدوه الأمل فى حسم الصراع لنفسه أو على الأقل للحيلولة دون نهضتنا .
" يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ " التوبة 32
إن الحرب الإعلامية التى يدعمها الغرب وعملاؤه من حكام المسلمين لايمكن التغلب عليها وتحييدها إلا بنفس الأدوات أى بالإعلام نفسه ، والقادر على هذه المواجهة هو الإعلام المخلص الذى خرج من رحم الأمة كنتيجة طبيعية للحراك الذى حدث فيها .
وربما يسأل سائل : كيف يمكن للإعلام الذى خرج من رحم الأمة أن يتصدى لإعلامٍ تُنفق عليه المليارات وتُشرفُ عليه دول ؟ وهل مثل هذه المنازلة متكافئة فى ساحة الإعلام ؟
وللإجابة على هذه التساؤلات علينا أن ندرك أن الإعلام العميل ليس له قبول عند الأمة بل هو يعاديها ويعادى مشروعها للنهضة ، بينما الإعلام المخلص هو من جنسها وله مصداقية وقبول عندها، ولأنه خرج من رحمها فمن الطبيعى أن تحتضنه وترعاه . بالإضافة إلى أن عوامل القوة التى يمكن أن يتسلح بها إعلام الأمة كثيرة ، وأهمها أن يكون لاعب أساسى فى عملية التغيير ، وهذه تحتاج إبتداءاً أن يعيها القائمون على هذا الإعلام ، بمعنى أن تكون لديهم الثقة بأن دورهم فى التغيير كبير ، وإذا خاضوه بقوة وبثقة فى الله فإن الإعلام العميل مهما أنفق من مليارات ووقفت خلفه دول فسوف يخرج من السباق منكس الرأس يجر أذيال الهزيمة.
إن صراع الحق مع الباطل موجود منذ بدء الخليقة وسيبقى حتى تقوم الساعة ، ورسول الله حين حمل رسالته تمت محاربته بوسائل شتى ، منها التعتيم الإعلامى ، حيث أراد كفار مكة أن يحولوا بينه وبين الناس كى لايسمعوه ، لأن أهل الباطل لايقدرون على مواجهة الحق ، فإذا فشلوا فى ذلك لجأوا لأسلوب آخر وهو إفتراء الكذب على أهل الحق " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ" فصلت 26.
إن هذا الصراع يتكرر فى كل زمان ومكان وهاهو الإعلام العميل يقوم تجاه قادة الأمة الحقيقيين بنفس ماقام به كفار مكة تجاه رسول الله ، حتى لايستمع أحد إلى الحق وإذا فشلوا فى ذلك شنوا حملات التشويه على أهل الحق كى يُنَفِروا الناس منهم .
وهنا يبرز دور الإعلام الصادق فى مواجهته للإعلام العميل ، وهذا يكون بالتفاعل مع القادة الحقيقين للأمة لمشاركتهم فى عملية التغيير ، وهذه المهمة لايمكن أن تتم بنجاح إلا إذا تحرر إعلام الأمة من جميع الأراء المسبقة التى صنعتها الأنظمة العميلة وأجهزة إستخباراتها لتشويه القائد الحقيقى للأمة الذى يسعى لتحريرها وإنهاضها على أساس الإسلام ، وهذا يحتاج إلى التفاعل وسماع الأخر وبناء آراء صحيحة من مصدرها .
إن زمن الثورات الذى نحياه الأن قد أزال الخطوط الحمراء التى خطتها الأنظمة ، فالأمة بحاجة ماسة إلى تفاعل صحيح وبَنَّاء بين من يحمل مشروعاً لنهضتها على أساس الإسلام وبين أبنائها المخلصين من رجال الإعلام حتى يصل هذا المشروع إلى الأمة كما هو من مصادره ، وبالتالى تفشل كل مخططات الغرب ومن معهم من العملاء الذين يسعوَّن دون مللٍ للحيلولة دون وصول هذا المشروع إلى الناس ، لأنه لو وصل فسوف تحتضنه الأمة وتضعه موضع التطبيق .
أيها الإعلاميون الصادقون المخلصون : إنه بأيديكم أن ترفعوا من مستوى الأمة وتأخذوا بيدها ، فضعوا أيديكم مع أيدى القادة الحقيقيين لها ، الذين أعدوا لها مشروع نهضة كامل مصدره الوحى ، ويعملون ليل نهار لتكون كلمة الله هى العليا وكلمة الذين كفروا وإعلامهم هى السفلى ، وعندها ستكونون أنتم سادة الإعلام وتُلقون بإعلام العملاء ومن يقف خلفه فى مزبلة التاريخ كما كان مصير حكامهم .
" وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ " المطففين 26