الحنين إلى صحبة
جلول بوكابوس
معمر حبار
عرفته في معهد العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بجامعة الجزائر، سنوات 1986-1990، وكأني لم أعرف سواه. كان الأخ الناصح، والأب الراشد، إنه زميل الدراسة.. جلول بوكابوس.
حفظت الذاكرة عنه كل جميل، وشهدت له العقود الثلاثة، بالفضل والسّبق في الأدب، والعلم.
تعلّمت على يديه، أن كتب التراث، تزداد رسوخا وثباتا، كلما امتد بها الزمن، فهي في رسوخ إلى الأبد.
كان مولعا بقراءة كتب التراث، فهو كالنحلة ينتقل من مجلد إلى مجلد، يجمع رحيقها، فيطعمه من حوله، وعبر العناوين المختلفة، يكون مجلسه ولسانه. كان يردد دوما، أن قراءة كتاب تراث واحد، يغنيك عن مئات الكتب المعاصرة.
من هذه الكتب النفيسة، استمدّ فصاحة اللّسان، وبيان القلم. ويكفيه فخرا، أن جريدة "الشعب" الجزائرية، وهي من أعرق الجرائد، نشرت له بعض المقالات، وهو مازال طالبا يتلقى العلم، وكل يسأله يومها متعجبا، كيف استطعت أن تنشر مع الكبار في هذه الجريدة؟.
تفرّد بطريقة لم ينازعه فيها أحد، كان قبل أن يجيب على سؤال الامتحان، يقوم بإعراب السؤال، ويجيب حسب الإعراب، رغم أن الأساتذة الذين تلقينا على أيديهم المحاضرات يومها، تخرجوا من الجامعات الأمريكية والبريطانية، ولم يكن يعنيهم الإعراب في شيء، بل كانوا أحوج النّاس إلى تعلّم اللغة العربية.
حينما كنا نراجع الدروس سويا، كانت المسودة لدية، أفضل بكثير من ناحية التنظيم والنقاوة من أيّة ورقة مزدوجة تقدم أيام الامتحان. فهو يستعمل الألوان، ويذكر العناوين، ويترك الفراغ، ويُسَطِّر على الأهم وكأنه في امتحان، وحين أسأله بأنها فرصة للمراجعة، لاتحتاج كل هذا العناء في الترتيب والتنظيم، يجيب قائلا: العلم يحتاج إلى تنظيم وترتيب، فكلما دخل بطريقة منظمة، كلما خرج بنفس الدقة والتنظيم، وهذا شأنه في الحياة كلها.
ومازلت إلى اليوم، أنقل لأولادي ولمن حولي، دون ملل ولا كلل، مارأيته وتعلمته على يد جلول، أثر التنظيم والترتيب في الحفظ والنشر والتأثير.
كان منتظما في الملبس، والمشية، والمأكل، والمشرب، فقد رزق كمال الجسم، وصفاء الوجه، وأنعم الله عليه ، بسمو العقل، وبياض الباطن.
كان قليل الأكل والكلام، وهي سمة أهل العلم والأدب والورع، لاتفوته صلاة، ولا يتحدث إلا إذا أُذِن له، ولم يدخل يوما في جدال، وإذا تكلّم، لاتسمع له صوتا، من شدّة أدبه وحياءه.
رُزق روعة الخط وجماله، فكانت كتاباته وخواطره، التي متّعني بها، طيلة أربع سنوات من الصحبة النقية النادرة، تُقدمُ في ثوب كله جمال وبهاء، يشدّ بها البصر والبصيرة.
أراني رسائله وأقرأني إياها على طريقة الكبار، حينما كانت للرسائل البريق الذي يلمع، والجاذبية التي تجذب، فقلت مهلا، إني والله أشفق على القلب، الذي ابتلي بهذه الأحرف التي تذيب الحديد. هذا القلب، الذي كان يترك لأجله مراجعة الدروس، لأن دقات القلوب الصافية، تُحي في المرء مايشجّعه على تلقي العلم، والإقدام. ويكفي أنه يعود لطاولة المذاكرة بعد اللّقاء، وكأنّه استمدّ شحنة من السّماء، أعادت فيه جلول بوكابوس الذي أعرفه، وأعرف فيه نشاطه، ومثابرته.
زرته مرتين بعد التخرج، فأكرمني وأحسن مثواي، إلى أن جاءت محنة التسعينات، ففرّقت بين الأحبّة، فانقطع حبل الاتصال، فلم يكن يومها، شبكة ولا محمول، خاصة وأن دائرة حمر العين، التابعة لولاية تيبازة، شهدت حينها فضائع ومآسي، لم تندمل جراحها بعد.
إليك أيها الغالي هذه الأحرف، عسى أن تقرأها وتقبلها، وما يدريك قد يجمع مقلب القلوب، عبر هذه السطر، قلوبا تحنّ لبعضها في الغيب، وما ذلك على الله بعزيز.