عذراً رفاق السلاح فقد أطلقت عشر رصاصات
مشاهداتي في سورية
م. عبد الله زيزان
باحث في مركز أمية للبحوث والدراسات الاستراتيجية
مشهد لا يتكرر كثيراً، مشهد يحيي القلوب، ويثلج الصدور، إنها طائرة "الميج" التي طالما رمت بحممها على رؤوس الآمنين فقتلت وجرحت، هدمت بيوتاً ودمرت أحلاماً، إنها ذاتها تحترق الآن أمام مرأى الناس أجمعين، فقد أصابتها إحدى طلقات الجيش الحر أثناء انقضاضها على منازل سكان الريف الإدلبي في الرابع عشر من شهر شباط الحالي...
لم نتمالك أنفسنا أمام هذا المشهد المهيب، فقبل دقيقة واحدة كانت هذه الطائرة تثير الرعب والهلع، وقد ألقت بعضاً من صواريخها على منازل السكان، إنها تحترق الآن، الدخان يلاحقها، والرعب واضح على قائدها، فارتباكه ظاهر في توجيه طائرته، فحيناً يسير بها جنوباً وحيناً يأخذها غرباً، سيقفز من طائرته، لكنه يريد هبوطاً آمناً بعيداً عن قبضة الجيش الحر، لكن هيهات، فالجيش الحر يسيطر على أراض واسعة، فحيثما اتجهت الطائرة فإن قائدها مأسور لا محالة...
أمام هذا المشهد الرائع، تعالت أصوات التكبيرات من كل القرى المجاورة، لم أتمالك نفسي، فكبرت وهللت، ونحو القبلة اتجهت، شاكراً الله على هذه النعمة العظيمة التي منّها عليّ، فهذه أول طائرة أشاهدها في سورية في زيارتي الأولى لوطني الحبيب، فإذا بها تحترق، لم أملك دمعة الفرح بهذا المشهد، الذي لم يقطع أجواءه إلا أصوات رصاصات متتالية تعالت في السماء، رغم أنّ تلك المنطقة تشهد هدوءاً حذراً، فجنود النظام قد فروا من مواجهة أبطال الجيش الحر، تساءلت عن هذه الأصوات، فأكد أحدهم بأنها الفرحة بهذا الإنجاز...
وقبل أن يرخي الظلام سدوله برز أحد عناصر الجيش الحر، والفرحة بادية على وجهه، وقبل السلام على الجموع قال: أرأيتم طائرة "الميج" اليوم وهي تحترق، فهز الجميع رؤوسهم، ليقاطعهم بقوله: أعتذر منكم جميعاً فقد أطلقت عشر رصاصات في الهواء ابتهاجاً بهذه الحادثة، وقبل أن يبدأ أحد بلومه تابع حديثه: أقسم لكم أنّي لم أملك نفسي، ولم أرَ إلا والرصاصات قد خرجت من فوهة بندقيتي في السماء ابتهاجاً وفرحاً...
ما قام به هذا الشاب "النمر" كما يحب أن يناديه الناس، جريمة في عرف الجيش الحر، فثمن الرصاصة الواحدة هذه الأيام دولارٌ ونصف، والجيش الحر يعاني نقصاً حاداً في الذخيرة والعتاد، وأموال المتبرعين لا تسد حاجتهم الماسة للنقود لتمويل تسليحهم لمواجهة عدو لئيم، يتدفق عليه السلاح والمال بسخاء غريب، فأعداؤنا يبذلون أموالهم وسلاحهم للنظام، في حين أنّ كثيراً من أموال العرب تذهب هدراً في غير مكانها الصحيح...
غاب عنهم أنّ الجيش السوري الحر هو خط الدفاع الأول عن عروبتهم ودينهم، وأنّ انكسار هذه الفئة لا قدر الله هو انكسار للأمة جمعاء، بعد أن تكالبت الأمم على هذا الشعب المغوار، الذي لا يواجه إيران فحسب، بل يواجه قوى الغرب والشرق، بعيداً عن الكلام الممجوج في وسائل الإعلام التي صدعتنا بمقولة سقوط الشرعية عن النظام، ثم في اليوم التالي يغدقون عليه نصف مليار دولار من الأمم المتحدة بحجة دعم اللاجئين...
عشر رصاصات فقط كانت تحتاج إلى اعتذار، ولولا أجواء الفرحة بين تلك الجموع لطاله حساب شديد من رفقاء السلاح أجمعين، في حين أنّ شبيحة النظام يتسلون برصاصات تثقب أجساد الأطفال والنساء دون رحمة أو قلق من قلة السلاح...
إنّ هذا المشهد على بساطته يضع أغنياء العرب أمام مسؤولية كبيرة، فالقرش الواحد إذا ما وضع في مكانه الصحيح يحدث أثراً واضحاً، ويسرع بسقوط النظام يوماً واحداً أو حتى ساعة واحدة يحقن فيها دماء العشرات من الأبرياء...