في رحاب الحلّاج (3)
في رحاب الحلّاج (3)
الحبيب الأنا
وصف موعد حبّ صوفي
مادونا عسكر
لي حبيبٌ أزور في الخلوات |
حاضر غائب عن اللّحظات |
ما تراني أصغي إليه بسمع |
كي أعي ما يقول من كلمات |
كلمات من غير شكل ولا نطق |
ولا مثل نغمة الأصوات |
فكأنّي مخاطب كنت إيًّاه |
على خاطري بذاتي لذاتي |
حاضر غائب قريب بعيدٌ |
وهو لم تحوه رسوم الصّفات |
هو أدلّ من الضمير إلى الوهم |
وأخفى من لائح الخطرات |
فجّر "الحلّاج" إيمانه حبّاً، استمدّه من الله لتتحوّل عبادته إلى عشق لا متناه. وهذا العشق لا يمكن أن يظهر بالشّكل الّذي نستشفّه من كلمات "الحلّاج"، إلّا إذا كان صادقاً تامّاً. كما أنّه ليس بالإمكان أن نحبّ الله بمبادرة شخصيّة فرديّة، فالله هو من يحبّنا أوّلاً ويزرع فينا محبّته، فيأتي الإيمان به جواباً على هذا الحبّ. والطّريق إلى الله وإن تشعّبت سبلها إلّا أنّ الحبّ هو الطّريق الأقرب والأجمل والأرقى، إذ إنّه يساهم ببناء علاقة شخصيّة مع الله تتدرّج مع الوقت إلى علاقة حميميّة وخاصّة، لا يدرك معناها إلّا الحبيب والمحبوب.
أيًّا كانت معاني الصّوفيّة سواء أكانت مبهمة أم معلنة، غامضة أم واضحة، إلّا أنّ ما يظهر لنا من خلال العبارات الحلّاجيّة، هو حبّ عظيم وعشق لا محدود للذّات الإلهيّة. ليس شعر الحلّاج تأليفاً خياليّاً وإلّا لاكتفينا بالمعنى الظّاهريّ ولما سرقنا عمق المعنى.
لي حبيبٌ أزور في الخلوات |
حاضر غائب عن اللّحظات |
حبيب ليس كالأحبّة، وزيارته ليست تقليديّة. هو الحبيب الّذي في الخفاء، وهنا الخفاء هو الذّات الإنسانيّة. يدخل المحبوب مخدعه أي ذاته ليحدّث الحبيب الحاضر الغائب عن اللّحظات. فالزّمان الممتدّ بين الدّقائق والسّاعات لا يعني شيئاً، واللّحظات تشبه نسيمات الهواء الّتي تتأرجح على أهداب المكان ولا نراها ولا نعرف من أين تأتي ولا إلى أين تذهب. يزور المحبوب الحبيب في عمق أعماقه بل هي زيارة الحبيب الّذي يحبّ أولاً ليمنح المحبوب القدرة على الحبّ المطلق.
ما تراني أصغي إليه بسمع |
كي أعي ما يقول من كلمات |
كلمات من غير شكل ولا نطق |
ولا مثل نغمة الأصوات |
الإصغاء سر المحبّين، إذ إنّه يرتقي عن الاستماع، ويتجرّد من الحاسة ويتخطّاها إلى التّأمّل الصّامت، ولكن في نفس الوقت يملأ صوت الحبيب كيان المحبوب. ما يصغي إليه المحبوب ليست كلمات عابرة وإنّما هو يروي حواسه من الحضور ويرتشف من سكينته أبلغ لغة، فيسمع ويرى ولكنّه لا يسمع ولا يرى.
هذا الإصغاء إلى اللّاكلام يشكّل حالة صلاة مرتقية جداً حيث لا الحبيب يتكلّم ولا المحبوب، ولا الحبيب يسمع ولا المحبوب، إنّما هو الحضور الّذي يكتفي به الاثنان معاً، وهو فوق الكلام وفوق اللّغة. في نفس السّياق يقول جلال الدين الرّومي: "للعشق لغة ليس ينطق بسواها، ولا يفهمها إلا أهلها". فليس متاحاً للجميع فهم لغة العشق لا لصعوبة فيها ولكن لخصوصيّتها وحميميّتها. ويقول القدّيس بولس: " إنّ الرّوح يصلّي فيكم بأنات لا توصف". هو من يصلّي فينا وليس نحن من نصلّي، فجلّ أقوالنا تمتمات، وهو الّذي يحبّ فينا فحبّنا لا يكتمل إلّا به.
فكأنّي مخاطب كنت إيًّاه |
على خاطري بذاتي لذاتي |
حاضر غائب قريب بعيدٌ |
وهو لم تحوه رسوم الصّفات |
يتهيّأ للعاشق بداية أنّه يخاطب حبيبه إلّا أنّه يخاطب ذاته، فالحبيب في داخله، يسكن في عمق أعماق ذاته، وحاضر في الكيان كلّه. وإن غاب عن البصر فهو غير محتجب عن البصيرة. هو البعيد عن الحواس لكنّه القريب أكثر من القرب في خلايا الرّوح، والمرتفع فوق التّعابير والمنصهر في كلّ ذرّة من الطّبيعة الإنسانيّة.
قد نصف الحبيب بأعظم الصّفات وأسماها لكنّنا نبقى نتمتم الكلمات ونتلمّس المعاني. فالحبيب أعلى وأسمى من كلّ صفة، وأعظم من أيّ لغة. وندرك الحبيب بالصّمت ويتفوّه القلب ما تعجز عن وصفه اللغة، فإدراكه أشبه بمن غاص في أعماق البحار ليكتشف جمالها الحقيقيّ. فالجمال المنقشع على وجه المياه ليس إلّا لفحات من سحر البهاء. وأمّا الفتنة والسّحر فيكمنان في العمق حيث الاتّحاد بجمال الحبيب، فنتجمّل.
_____________
ديوان الحلّاج، أبي المغيث الحسين بن منصور بن محمى البيضاوي (244 هـ- 309 هـ/ 858-922 م)، صنعه وأصلحه أبو طرف كامل بن مصطفى الشيبي، منشورات الجمل 1997- الطبعة، الأولى- ألمانيا- كولونيا