ماذا بعد انتصار الثورة السورية؟
د. صالح محمد المبارك
الثورة السورية أثبتت أنها أعظم ثورة في تاريخ البشرية الحديث بل ربما أعظم ثورة في تاريخ البشرية قاطبة إذ أنها بدأت من كل قطاعات الشعب وليس من نخبة أو فئة ، واستمرت لمدة تقارب السنتين رغم القمع الوحشي من نظام الأسد ، واستطاعت تفادي فخ الطائفية الذي حاول النظام ايقاعها به ، كما أنها استطاعت أن تكمل المشوار متوكلة على الله أولا وعلى جهود شعبنا المصابر رغم الفارق الهائل في الموارد والمقدرات بين النظام والشعب ورغم خذلان العالم لثورتنا التي أضحى اسمها "الثورة اليتيمة" أو "الثورة الكاشفة أو الفاضحة" لأنها كشفت وعرّت الكثير من مدّعي الحرية والثورية والقومية والمقاومة والديمقراطية وحقوق الانسان.
ثورتنا بدأت سلمية وبقيت سلمية لأكثر من خمسة أشهر رغم التقتيل المستمر من النظام ثم بدأ التحول التدريجي نحو المقاومة المسلحة التي اضطرنا النظام إليها اضطرارا لحماية نسائنا وأطفالنا وأعراضنا ، وقد بقيت المقاومة السلمية مستمرة حتى اليوم تعمل جنبا إلى جنب مع المقاومة المسلحة لإنهاء هذا النظام البغيض.
خلال شهور هذه الثورة الطويلة والمعاناة الهائلة التي تحملها شعبنا من قتل واعتقال وتعذيب وانتهاك حرمات وتدمير ممنهج وحرمان من أساسيات الحياة كالخبز والماء والوقود والكهرباء ، أخذ الكثير من أبناء شعبنا على عاتقه تخفيف المعاناة سواء بعمل إنساني أو إغاثي أو مقاومة عسكرية وكثرت اللجان والمجالس والكتائب والألوية وربما هذه من سمات الثورات إذ أنها تأتي من الشعب وليس من قيادة موحدة تخطط وتنفذ ، ومن الطبيعي أن يوجد بعض ضعيفي النفوس والمنتفعين والمُدّعين ولكن الثورة ماضية بفضل الله بزخمها وقوتها لا يضرها وحشية عدوها ولا خذلان أصدقائها ، وهي الآن تسير نحو توحيد القيادتين السياسية والعسكرية حتى يتم التنسيق التام بين كل أذرعها وبين الداخل والخارج ، وحتى يتمايز الحقيقي عن الدعيّ وحتى لا يُسمح بإملاءات خارجية أو أجندات حزبية أو فئوية ولا بميليشيات غير منضبطة وحتى يتم توزيع المساعدات توزيعا عادلا على كافة المناطق السورية وبشفافية تامة ، وأهم من كل هذا أن القيادة ستسير بإذن الله بما تمليه المصلحة الوطنية العليا.
والآن قد بدت بشائر النصر وبدأت فئران النظام تهرب من سفينتهم الغارقة وبدأ شعبنا يتطلع إلى سورية الجديدة حيث الحرية والكرامة والعدالة ، علينا أن ندرك أن انهيار نظام الأسد (الوشيك بإذن الله) ليس نهاية المشوار بل بدايته. بعد نصف قرن من الطغيان وتدمير البلد والمجتمع سيكون لزاما علينا أن نعيد بناء بلدنا على أسس سليمة من التفاهم والمحبة وبذل كل ما نملكه من جهود وموارد لتعود بلدنا جميلة راقية تزهو بتنوع شعبها وعراقته وأخلاقه وأنموذجا يحتذى به. علينا أن ندرك أن يعد انتصار الثورة:
1. ستحتاج بلدنا لفترة كي تستقر الأمور و تأخذ مجراها الطبيعي. بإمكاننا أن نساعد في تخطي هذه الفترة بيسر وسرعة إذا تحلينا بالصبر والحكمة. لنتعلم من تجارب وأخطاء إخواننا في تونس ومصر وليبيا واليمن.
2. لا شك أن نظام بشار الأسد أوغل في دماء الشعب وأعراضه وأمواله ولا شك أن الجروح عميقة جدا والنفوس موتورة وثائرة ولكن علينا ألا نطلق العنان لعواطف الثأر فنتقمص دور الظالم. لا بد للسلطة أن تُعيّن محاكم تنظر في جرائم العهد السابق وتعاقب من أجرم في حق الشعب ولكن علينا أن نتذكر أن المحاكمة والقصاص هي للسلطة الشرعية وليست للأفراد أوالجماعات ، ولنتذكر قول الله تعالى (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم (ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) وقول سيدنا عمر بن الخطاب (لأن أخطئ بالعفو خير لي من أن أخطئ بالعقوبة). ثورتنا ضد الظلم وليست ضد طائفة أو حزب ، وعلينا ألا نتحول من مظلومين إلى ظالمين مهما كانت الظروف.
3. نتيجة لمنع الحياة السياسية في سورية لنصف قرن نتوقع أن تتأسس أحزاب كثيرة بعضها له جذور عميقة وقديمة في مجتمعنا وبعضها جديد وسيبقى الكثير منا مستقلين. بلدنا ذو تنوع واسع عرقيا ودينيا ومذهبيا وايديولوجيا ، لذلك لا يتوقع أن يحوز أي حزب على أغلبية شعبية وباعتقادي فلن يحوز أي حزب على أكثر من 20-25% من الأصوات وهذا يجعل التحالفات حتمية ولهذه التحالفات ايجابيات وسلبيات ولكني أعتقد أن الايجابيات أكبر من السلبيات فهي تعلمنا التعايش المشترك وأنه لا يمكن لأي منا أن يحصل على كل ما يريد.
4. بعد سقوط نظام الأسد لابد من إسقاط دستوره أيضا وإعادة دستور 1950 ريثما يتم الاتفاق على دستور جديد ويتم إقراره من الشعب.
5. الثورة رفعت أشخاصا وخفضت آخرين ، علينا أن نكون موضوعيين ومنصفين في تقييم الأشخاص فمن نجح في دور ثوري أو إعلامي أو إغاثي أو قانوني أو عسكري لا يعني بالضرورة أنه يصلح للقيادة والإدارة والعكس صحيح فمن فشل في أمر قد ينجح في أمر آخر يكون مختصا به أو مؤهلا له. علينا أن نقوّم المؤهلات والمواقف أكثر من تقويمنا للأشخاص ككل. كل منا يمكن أن يخدم البلد بما يملكه من مؤهلات. وعلينا أيضا أن نبتعد عن الأوصاف المتطرفة كالعمالة والخيانة كما كان النظام البائد يفعل.
6. اتفقنا على أن يكون القرار في اختيار الحكومات القادمة للشعب من خلال آلية ديمقراطية نزيهة شفافة تكون المنافسة مفتوحة للجميع ضمن القوانين المعمول بها والمتفق عليها ، لذلك فعلى جميع الأطراف قبول ما تفرزه هذه العملية الانتخابية. علينا أيضا أن ندرك أن هذا الاختيار مشروط ومؤقت: مشروط بأداء الأمانة والإيفاء بالشروط والعهود ، ومؤقت حتى الانتخابات التالية وسيحاسِب الشعبُ المسؤولين على أدائهم: إن خيرا فخير وإن شرا فشرّ. شعبنا سيكون حكمه على خطة العمل والتنفيذ وليس الشعارات.
7. يجب ألا تكون الاعتبارات الحزبية والعائلية والعشائرية والفئوية عاملا في اختيار الشخص المناسب للمكان المناسب بل الكفاءة للمنصب والأمانة ولننظر إلى كل منصب سواء كان بالتعيين أو الانتخاب بأنه تكليف وليس تشريفا
8. علينا أن نبني نظام مؤسسات تكون فيه المؤسسة فوق الفرد وأن نضمن سيادة القانون فوق الجميع. علينا أن نبتعد عن تقديس الفرد فنحن بشر والبشر يخطئون فالقوانين والمصلحة العامة فوق الاعتبارات الفردية ، والأفراد يأتون ويذهبون ولكن المؤسسات تبقى.
9. لمن لم يفز بالانتخابات وبقي ضمن المعارضة فعليه دور وطني لا يقل أهمية عن أهمية الحكومة وهذا الدور يتجلى في ممارسة الرقابة والنقد الإيجابي البنّاء. إن كنا وطنيين حقا فلن نمارس المعارضة فقط من أجل المعارضة بحد ذاتها أو للوصول إلى الحكم بل من أجل المصلحة الوطنية العليا لذلك فعلى المعارضة التحلي بالأمانة والشجاعة لتؤيد الحكومة في القرارات التي تراها صائبة وتصب في مصلحة البلاد وتقوّمها إن أخطأت.
10. على الحكومة القادمة أن تركز على التنمية الاقتصادية والبدء بتلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين ورفع مستوى المعيشة. لن يكون هناك تقدم حقيقي إلا من خلال الطبقة الوسطى – التي قضى عليها نظام الأسد - والتي يجب أن تشكل الأغلبية من الشعب وأن تكون مرتاحة معيشيا. الايديولوجيات لا تحل محل المأوى والطعام والدواء والتعليم. هناك أمثلة يمكن أن نتعلم منها كالمثال التركي (منذ 2002 تحت حكم حزب العدالة والتنمية) والماليزي والبرازيلي.
11. ثورتنا قامت من أجل الحرية والكرامة والعدالة وعلينا أن نضمن حرية الرأي للمواطن ولكن كأي دولة في العالم لا بد وأن تكون هناك حدود للحرية وللشعب أن يرسم حدود تلك الحرية من خلال الدستور الذي سيصاغ ثم يُقرّه الشعب والقوانين التي تُقرّها السلطة التشريعية. بلدنا متنوع عرقيا ودينيا لكن ثقافته العامة السائدة عربية مسلمة وهذا لا يتعارض مع حقوق المكونات الأخرى في الحفاظ على لغتهم ودينهم وتقاليدهم.
12. لنعاهد الله ونعاهد بعضا ألا نلجأ للعنف والسلاح ضد بعضنا مهما كانت الظروف فالسلاح لن يوجه إلا إلى عدو خارجي. ستكون بيننا اختلافات وخلافات وهذا لا يضير بل على العكس يمكن أن يكوّن آلية للتحسين والتطوير فعلينا أن نلجأ للحوار بالكلمات والاحتكام للقانون في كل الظروف ورفض استخدام العنف.
13. إن الثورة السورية قد قربتنا إلى بعض الدول وباعدتنا من بعض وليس من شك أن علاقاتنا المستقبلية ستتأثر بالدور التي لعبته تلك الدول تجاهنا أثناء الثورة ، لكننا سنتعامل مع كل الدول على أساس المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل وأن نسعى لإزالة أو تخفيف أي توتر مع الدول الأخرى خاصة الدول الشقيقة والصديقة وأن نتفادى أي حرب أو نزاع مسلح قدر المستطاع وهذا ينطبق أيضا في حالة استعادة أرضنا المحتلة في الجولان والتي لن نتنازل عنها ولكننا سنسعى لاستعادتها بالطرق السلمية ما أمكن ذلك.
نرجو الله تعالى أن يعيننا في هذه الظروف الصعبة ، نحن نؤمن بـ (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) وهذه الآية تنطبق ليس فقط في معارك القتال بل في معارك البناء التي سنحتاجها ، فلنُشَمّر عن سواعدنا ونتكل على الله ونبدأ معركة البناء فور انتهائنا من معركة التحرير.