شيء من ذكريات ..
عقاب يحيى
بعضهم يستنكر عليك أن تكون معارضاً من موقع بعثي قديم، أو أنك
كنت بعثياً.. بينما يبحث عن " بعثي" ما زالت رائحة السلطة فيه قوية ..
ـ نعم نشأت في مدرسة بعثية لا يمكن أن أنكرها أو أتنكر لها.. وحين وعيت لم أقصر في عمليات النقد.. في عز الحكم.. حين كان كثير يمسحون حليب الفطام، ويأتون بهدايا العطايا ممراً للقمة دسمة.. لا تحرّم ..وكان النقد قناعة للتطوير والتعبير عن احتقان الاغتراب بين القراءة والواقع، الشعارات والممارسة .. وكثير آخر .
ـ وقتما داس الطاغية الكبير على المبادئ والشرعية..ولو كانت شكلية بالنظر إلى ظروف الوصول إلى السلطة وما عرفه البعث من انقسامات، ونهش بقايا الأحلام بإمكانية بناء شيء حقيقي .. صرخ الضمير بواجب الرفض.. وكان رفضاً قوياً يتناول المكاسب والمغانم والإغراءات، وينقل المرء من " جنة" السلطة إلى " جحيم" حقدهم ونقمتهم وحروبهم المتعددة.. رغم العمر الشاب الذي قد يسيل لعاب كثيرين.. فيطوون المبادئ في زوادة الواقع والتبرير والتغرير، ويحنون رؤوسهم كبقية القطيع.. يصفقون ويرقدون في أسرة أحلام الثراء غير المشروع، واتقان الدجل والنفاق ومضغ الأهداف والشعارات ثم تقيّؤها بطريقة بائسة .
ـ مرة أخرى نادى الضمير واجب العمل .. لأن الرفاق في السجون.. فابتلعنا كثير الحقائق والقناعات.. ودخلنا ـ نحن الأطر المتقدمة في البعث ـ مراهنة خطيرة استهلكت العمر.. وكان كثيرنا يعرف الصعوبات والمخاطر، والخناجر والطناجر.. ..والمخاطر والتداخلات.. ,وكان لا بدّ من المحاولة مهما أدركنا التعقيدات والاختلاطات، كمحاولة للمساهمة فيس تعرية الطغمة والعمل على إسقاطها، وفتح طريق جديد من العمل المشترك مع بقية القوى لنكون في الخندق الواحد وفتح صفحات جديدة تحاول ردم الأحادية، ومقولات الحزب القائد، والتابوات المعلبة .
ـ اعتقل كثير.. وكانت المطاردة عمر سنوات التبحر.. والتبصر والمحاولة ..
ـ بدت المحاولة مشروعة للخروج من عنق زجاجة الأزمة، والأفكار المخنوقة، والممجوجة، والمترهلة، والمثقوبة، والمتخلفة.. فبذلت جهود كبيرة لبناء البديل في ظروف قاسية..
ـ وكان وعي مخاطر الأحادية، والحزب الواحد القائد ومفرخاته، ولو على قاعدة مشروع تصوري، وليس غطاء للبسطار والفئوية.. مبكراً، فأسقطت قيادة التنظيم ذلك في مطلع السبعينات، وتبنت خط العمل الجبهوي بوابة لوعي الديمقراطية المغتالة، وأثر غيابها في سقوط المشروع النهضوي، واعتلاء العسكر منصة الدجل، والشعارات الخلبية، وتفريخ نمط استبدادي مخلوط بالفئوية والتفسيخ المنهج، والاغتيال المنظم لكل ما هو خيّر وأصيل في شعبنا .
ـ ليست الديمقراطية شعارات وتبويقاً.. وأغانيا نعزفها بتكرار الإدمان... هي حياة وممارسة، واعتراف بأن الحقيقة نسبية ولا أحد يمتلكها منفرداً، ومتحولة، وهي تكريس حق الآخر بالاختلاف في مساحة نتقاسمها بالعدل، وهي علاقات تفاعل وحوار، وتنافس ..وقوانين ونظام وتشريع لنواب الشعب المنتخبين...وكان علينا أن نتعلمها.. نحن الذين عشنا في حاضنة الاستبداد والأحادية طويلاً.. بكل تراكيب التناقض.. كي تدخل العمق فلا تكون صبغة تقشرها شمس الحقيقة، ولا حالة سطحية تغطي توحش الأنا المستبدة .
***
كثيرة التضحيات التي قدمها أكثر من جيل . بعضهم دفع حياته ثمنا لقناعاته في مواجهة الطغمة. وبعضهم أفنى عمره بحثاً عن الحلم الوطني وعملاً لتجسيده من بوابة إسقاط نظام الطغمة الفئوي.
عديدة الآلام والفواجع والمرارات التي رافقت مسيرة العقود.. في الرفاق والأصدقاء والأهل.. وكثير أثر الإرهاق والمحدودية واليأس، وتزويق الأحلام الجميلة نظرياً، ونقشها ببراءة الجماس.. لكن التاريخ يكتبه المنتصرون أولاً، وثانياً فإن كل التضحيات . كل الجهود . كل المعاناة. أعوام السجن والمطاردة والجوع والحصار والتشرد ..تبقى جانبية ما لم تثمر وتحقق الأهداف، وإن لم تصير كذلك تضمحل وقد تُنسى ولاتخصّ سوى اصحابها الذين قد يقعون في مرض التكرار والماضوية ..فلا يعود يسمعهم أحد، وقد يصبحون حالة مرضية ومملة ، خاصة إذا ما صار الماضي هو الحاضر والمستقبل ..
***
ـ نحن الذين عرفنا الطغمة عن قرب : شخوصاً وبنى وتفكيراً ظاهراً وباطنياً.. لم نخطئ في شعارات إسقاط النظام على مر العقود، بالمعنى الواقعي حين كانت الآمال ممكنة التحقيق، أو بالمعنى التاريخي كشعار صحيح وواجب التنفيذ يوماً بالنظر للمخحاطر الكبيرة التي يحملها وجود مثل ذلك النظام على بلدنا وشعبنا ..
ـ وحين أعمى التوريث وخطاب الوريث البعض ففتحوا صفحات المراهنة وبعضهم سار عميقاً في الأماني لم تغشنا الكلمات ولا الوعود، ولا ظاهر الأمور.. مؤكدين خط ذلك النهج التدميري، وما يحمله التوريث من مخاطر فظيعة ..فحاولنا تعرية الواضح والمغشوش بما نملك من إمكانات متواضعة، وبواقع تراجع المعارضة حتى الهوامش والأرشفة ..، لذلك لم نستغرب مدى الحقد المتفجر في التعامل مع الثورة، ولذلك أيضاً لم ننظر يوماً لدعوات الإصلاح، والحلول التسووية مع الطغمة بجدية.. لأننا نعلم أنها اقلوية، ومشبعة بالحقد، ولا تملك سوى طريق الموت والدمار والدفع بالبلاد إلى حافة الهاوية في جميع المجالات .
****
ـ كتبنا كثيراُ بأزمة المعارضة، وذهبنا إلى مدى أبعد في إعلان اهتراء الأشكال الحزبية القائمة، وضرورة العمل التياري العريض البعيد عن الحلقية، والعصبوية، والأدلجة، والأحادية.. بحيث يمكن لمشارب متعددة أن تلتقي في المشتركات العامة ضمن إطار عريض يمهد لشكل سورية القادمة ..
ـ وحين قامت الثورة.. لم نخجل من الإعلان أنها ليست من صنع المعارضة، وأننا لسنا أوصياء عليها، وأننا مجرد جنود في صفوفها، وعلينا التعلم من الشباب الكثير، وبالوقت نفسه نقل بعض خبراتنا وحصائل تجاربنا لكن بطريقة مقبولة وبتواضع يجسر الهوة بين الأجيال .
رفض كثيرنا هيصات المؤتمرات والندوات، والدخول في بازارات المحاصصات والبحث عن " غنائم" المناصب.. وقعد عديد في الظل يطوي تاريخه وتجاربه ويتحرق لهذا الانهمار السوري الذي فجّر خزين العقود فبرز الجشع، والطمع، والانتهاز.. والافتعال والدجل في صناعة الأحداث والدور.. وكثير مما صار ظاهرة سورية بامتياز ..
ـ كان المهم وسيبقى أن تنتصر الثورة، وأن يتحرر شعبنا من عقود الحجر والقتل والتغييب.. وأن تقوم الدولة المدنية الديمقراطية التي تحقق المساواة في المواطنة للجميع.. وهو ما نأمله، ونعمل ضمن جهدنا المتواضع لأجله ..