أم فراس امرأة من لحم ودم

أم فراس امرأة من لحم ودم

د. سماح هدايا

"دمشق لم تبخل قط بإنجاب الأبطال، ولن تبخل ابدا". من بيتها الجميل الذي بنته بعرقها وعرق زوجها في ضاحية من ضواحي جنوب دمشق، تخرج أم فراس هاربة من وحوش عصابات نظام الأسد بزوجها وابنها الوحيد الذي تبقّى.

 أم فراس امرأة دمشقيّة متعلّمة مثقّفة عاملة. كانت تعيش حياتها اليوميّة بعفاف وكفاية، لا فاقة فيها ولاعوز. وقد قضتها في تدريس مادة الفيزياء التي تحملها إجازة جامعيّة. وهي متزوّجة برجل ذي مكانة من جسر الشغور . كان زوجها عقيد ركن في الجيش السوري، وهو الآن متقاعد.

 قبل أشهر قليلة كانت أم فراس سعيدة جدا وهي تنشغل بإعداد ترتيبات زفاف ولديها الشابين. الأول مهندس والثاني ملازم أول في الشرطة. وتزويج الأولاد شان عظيم في ثقافة المجتمع السوري وعواطفه. لكنّ ثورة الحريّة والكرامة في سوريا، غيّرت مسار حياتها وقلبت واقعها، وغيرت المخططات وألغت الترتيبات؛ فقد انشقّ ولدها عن الجيش النظامي، وانخرط مع أخيه في صفوف الجيش الحر. وأكملت هي بفخر وإباء تبعات قرار ولديها الوطني. وكان سبب اشقاق ولدها، كما تشرح في موقع الدفاع عنه وعن الشعب الثائر والجيش الحر، أنّه شاهد بعينه ظلم ضباط النظام الأسدي الوحوش، وشاهدهم يقومون باغتصاب فتاة في فرع اليرموك من عائلة (....) المنحدرة من درعا. ...

 وسرعان ما رأت أم فراس نفسها وزوجها وابنها الأصغر، برفقة شباب من الجيش الحر، جاؤوا، فجأة، لتهريبهم وتأمين حمايتهم قبل أن يقعوا بأيدي شبيحة النظام ورجال أمنه انتقاما من الولدين في الجيش الحر. أم فراس، أسرعت بالرحيل من دون ان تحزم أمتعتها أو أوراقها الرسمية أو تأخد مالا أو دواء لزوجها المصاب بالسكري والضغط. كانت تستحمّ عندما جاء رجال الجيش الحر. ولم يكن لديها الوقت الكافي لترتدي كل لباسها، وضعت على رأسها الغطاء ولبست بسرعة جلبابها، ووضعت قدميها في حذائها الصيفي قرب باب البيت. كان همها الأول الهرب بما تبقى من الأسرة قبل أن يجري تنفيذ حكم الإعدام فيهم. وهمها الثاني سجادتها الفاخرة المنشورة على الشرفة. طلبت من جارتها وهي تلهث وتنزل الدرج أن تحزم السجادة. فهي حتما ستعود قريبا ولن تتأخّر.

 خرجت من بيتها وحيّها ومدينتها وعيناها تغرقان في دمعهما. زوجها مريض مرهق. وابنها الأصغر المراهق يفور غضبا، يريد أن يلتحق بأخويه في الجيش الحر، ليدافع عن شعبه وأرضه. وبدا الطريق إلى المخيمات التركية في مخيم (....)، قريبا من الحدود أبعد من الخيال وأشد خطرا من حقل ألغام. وعرفت وهي على الطريق من هاتفها الخلوي أن رجال الأمن، دخلوا إلى بيتها يبحثون عنهم ليقتلوهم، وأنهم نهبوا البيت وكسروا كل مافيه وحرقوه من الداخل. الدموع كانت تتقجّر بصمت وغزارة؛ كأن حياتها تضيع منها فجأة. وكل مابنته يتبخّر. ولداها في خطر الموت. وأسرتها كلها في خطر شديد. وعصابات الأسد تريد رأسها ورؤوس أفراد أسرتها. وهي بلا بيت. بلا مأوى. بلا مال. تنظر إلى زوجها الكهل وهو يقاوم عجزه وذل النزوح؛ لكنها تجلّدت واستعانت بإيمانها وصبرها، وكانت واثقة بالنصر القادم، وأخذت بالإيمان تشحذ عزيمتها لتقويها من أجل الكفاح في واقع المنفى الجديد.

 واستقبلها مخيم النازحين والمهجّرين ببؤسه وحرارته الشديدة وهوائه الساخن الذي يغصّ بالحشرات، وطعامه الفاسد. الخيمة تلاصق الخيمة الأخرى. والكلمة تسمعها كل أذن في المكان المكتظ بالأجساد والروائح والأصوات. وأعطوها خيمتها، وقطعة اللباس والفرشة والبساط. وأعطوها هوية جديدة، هوية اللاجئين. هويتها في المخيم ، لكي تستلم حصتها في الطعام والشراب..

وتذكرت شعر محمود درويش في المخيم وكلمات غسان كنفاني وأخذت تردد بألم شعر يوسف الخطيب :

على الرمال نازحون..... نازحونْ

وفي مجاهل القفار.... نازحــونْ

كما يُوقع السحاب في الســكونْ

رثاءَ أرضنا الخصــيبة الحنـونْ

وفي مدارِ الأفقِ تســرح الظنونْ

أنازحون.... نازحون.... نازحون

لكنْ، لاسبيل للشكوى. وإن كانت لاتملك قرشا واحدا، فعليها أن تقاوم لكي تحافظ على هيبتها وكرامتها، وعلى ماء وجه زوجها الذي كان مهيب الجانب في زمن مضى. وعليها أن تحمي ابنها من الهرب والعودة إلى سوريا؛ فهو الوحيد الذي تبقى لها. وعليها ان تجاهد كما يجاهد أبناؤها وأبناء شعبها الشباب والعجائز. الرجال والنساء..

 أم فراس امرأة شجاعة قوية، أكبر ب كثير من الصفة التي يضيقون بها صورة المرأة الدمشقية؛ ليؤطروها في لوحة اللامبالاة والضعف والتبعيّة. هي طاقة تحدٍ وكفاح وأنفة وكبرياء. أخذت تعمل في التعليم داخل المخيم، وسط ظروف الحرمان والقحط والحر. بالطبع لا أقلام. لا مدرسة. لا كراسات. لا ظل من الشمس. لا راتب. وأصبح أطفال المخيم أولادا لها. وأخذت تتحدى ما يقال عن المهجّرين من أقوال سيئة، وتقاوم الصفات القبيحة التي تلصق بهم. وكوّنت فريقا من بنات المخيم وشبابه لتنظيف الحمامات وتنظيف المرافق المختلفة. وقامت بحولة توعية في الصحة والنظافة...وأخذت تقوم بدور قيادي لتلتقي بزائري المخيم من الإعلاميين والسياسيين والنشطاء والمغيثين؛ لكي تنقل الصورة الحقيقية البائسة لحياة المخيم وحياة اللاجئين. ورأت بعينيها الذكيتين كيف يتحوّل المخيم في جزء منه إلى طغيان واستبداد ومحاصصة ومزيدٍ من القهر. . مازالت تقاوم ، وترشد المراهقين والأطفال، تفاديا لأي انحراف متوقّع في ظروف البؤس والقهر والفوضى. مازالت تعمل وتقاوم وتحلم. شكرا لها ثورة سوريا؛ فرغم المأساة جعلت أمتنا تنجب الأبطال من رحم المخاض.