مصر والسعودية جناحا الأمة
حسام مقلد *
كلنا نعلم أنه يستحيل أن يحلق الطائر عاليا في السماء بجناح واحد، وكذلك الوضع بالنسبة لأمتنا العربية فلا يمكن لها أن تنهض وتحفظ أمنها القومي دون مصر والسعودية، فهما معا لهذه الأمة كجناحي الطائر؛ وذلك بما تملكانه من قوى ناعمة وثقل استراتيجي هائل في المنطقة والعالم، ولا أبالغ إن قلت إن استقرار الأوضاع الإقليمية تتأثر بالغ التأثر بحسب العلاقة بين هذين البلدين الشقيقين؛ ولذا فمن الصعب أن ينساق ساسة البلدين وراء الإعلام المغرض ويعرِّضوا هذه العلاقة الاستراتيجية لأية اهتزازات، كما يصعب تخيل إمكانية تعامل أي طرف رسمي من الجهتين مع هذا الملف الخطير تحت ضغط الشارع وما يعتريه أحيانا من نزق ورعونة وتسرُّع في تقييم الأمور ووضعها في حجمها الطبيعي واتخاذ المواقف المناسبة، وتقدير ردود الأفعال المتوقعة!!
وفي الحقيقة لقد شعر جميع أبناء الشعبين الشقيقين بالأسف والحزن العميق لتحول خلاف عابر حول بعض القضايا الحقوقية لأفراد قلائل هنا وهناك وما واكب ذلك من وقفات احتجاجية من بعض المصريين إلى سبب يدفع المملكة لسحب سفيرها للتشاور وإغلاق سفارتها في القاهرة وقنصليتيها في السويس والإسكندرية!!
لقد كان بالفعل قرارا صادما ومفاجئا أحزن الجميع: مصريين وسعوديين، ويبدو أن صوت الأقلية الضئيلة المتوترة المُستَنْفَرَة من الجانبين قد تغلب في هذه اللحظة، لكنني على يقين من أن صوت الحكمة والتعقل سينتصر في النهاية، وهناك من الأسباب المنطقية ما يجعلني شديد الثقة في سرعة لملمة الموضوع وعبور هذه الأزمة بأقل الخسائر الممكنة، ومن ذلك:
أولا:
يعرف القاصي والداني ما تتمتع به الأسرة المالكة السعودية من كريم الشيم وعظيم الشمائل، ولا يلقب خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بملك الإنسانية من فراغ، ومن منا لم يتأثر بعمليات فصل التوائم وإنهاء معاناتهم ومعاناة أسرهم من مختلف دول العالم على نفقة مملكة الإنسانية، ومن منا ينسى دعم المملكة لجميع شعوب الأرض في الملمات والمحن والكوارث، في الحقيقة لا ينكر أيادي المملكة البيضاء على الكثير من الضعفاء والمنكوبين والمحتاجين في هذا العالم إلا جاحد أو مكابر، وأنا على يقين من أن قلب خادم الحرمين الشريفين سيتسع لأبنائه المصريين أصحاب المظالم والقضايا المعتقلين في المملكة رحمة بهم وإنهاء لمعاناة أسرهم المكلومة.
ثانيا:
الشعب المصري معروف بالطيبة والتسامح والنخوة والكرامة وحدة العاطفة ومن طبعه المروءة والنجدة والشهامة وحسن الضيافة، ويدرك كذلك كل من يتعامل مع الشعب السعودي أنه شعب طيب كريم مسالم يتحلى بالقيم العربية الأصيلة، يرعى وشائج القربى، ويحرص على صلة الرحم، ولا يتنكر أبدا لأخوة الدين والدم.
ثالثا:
إن كرامة المواطن المصري على أرض وطنه وبلده الثاني المملكة العربية السعودية هي من كرامة المواطن السعودي، وكذلك كرامة المواطن السعودي فوق ثرى مصر الطاهر، ولا يمكن أن يكون كرامة أحدهما خصمًا من كرامة الآخر أو على حسابه، وكلا الاثنين مرحب بهما في أي بلد يسكنه أو يعيش فيه فهو وطنه، والمواطن المصري أو السعودي هو أحد أبناء هذا الوطن المعززين المكرمين شريطة أن يلتزم بما فيه من أنظمة وقوانين.
رابعا:
إن أمن المملكة العربية السعودية أرض الحرمين الشريفين من أمن مصر، وأمن مصر من أمن المملكة فكلاهما خيار استراتيجي للآخر وللأمتين العربية والإسلامية، فكما أن مصر انطلاقا من مسئوليتها التاريخية قد ألزمت نفسها مرارا وتكرارا بحماية أمن المملكة، وحماية أمن الخليج والمصالح العربية العليا بصفة عامة، فلا يمكن كذلك للمملكة انطلاقا من مسئوليتها القومية أن تترك مصر أو تتخلى عنها في هذه اللحظة التاريخية الفارقة.
خامساً:
معروف عن الدبلوماسية السعودية رحابة الصدر، والصبر الجميل وطول النفس، ولا يجد الكثيرون مبررا لرد الفعل المبالغ فيه بإغلاق السفارة السعودية في القاهرة، وأجزم أن حكمة الدبلوماسيين السعوديين ستعصمهم من الانزلاق وراء المغرضين المهيجين، ولن يسمحوا لبعض الحوادث الفردية هنا وهناك، ولا لفحيح بعض وسائل الإعلام بتمزيق أواصر المودة ووشائج القربى بين أبناء الشعبين الشقيقين.
وعلى ذكر الإعلام المغرض وفحيحه فلعل من المناسب تناول ما تروِّجه بعض وسائل الإعلام المضللة من شبهات للوقيعة بين مصر والسعودية على النحو التالي:
أولا:
يزعم البعض أن السعودية تخاف من نجاح الثورة المصرية، وتخشى امتداد تأثيرها النفسي والفكري والثقافي على المجتمعات العربية كلها، وخوفاً من تهديد أنظمة الحكم في دول الخليج العربي؛ ومن ثَمَّ تسعى المملكة وحلفاؤها (...) لإفشال هذه الثورة، وهذا الزعم قد يبدو منطقيا في الظاهر، لكنه مردود عليه من وجوه:
1. معروف حكمة المملكة العربية السعودية الشديدة، وأنها تنأى بنفسها تماما عن التدخل في الشئون الداخلية لأية دولة من دول العالم عربية أو غير عربية.
2. معلوم أن السياسة لعبة مصالح وإذا كان من حقنا نحن المصريين حماية مصالحنا وحماية ثورتنا المباركة من أية تهديدات داخلية أو خارجية، فمن حق جميع الأشقاء العرب كذلك حماية مصالحهم بالطريقة التي يرونها، المهم في ذلك كله ألا يقع أي تصادم أو خلاف، فمن حق كل طرف حماية مصالحه بما لا يؤثر على مصالح الأطراف الأخرى.
3. الشعب المصري شعب راقٍ ومتحضر وهو شعب طيب مسالم، ولا يسعى مطلقا لتصدير ثورته، وقد ولَّى زمن هذه المصطلحات الرنانة، وكل ما يهم المصريين الآن استكمال البناء الديمقراطي لمؤسسات دولتهم، وإنعاش اقتصادهم المتداعي، وحل أزماتهم ومشاكلهم الحياتية المتفاقمة.
4. للأسف الشديد يعشق العرب جميعا نظرية المؤامرة ويرددونها عمَّال على بطَّال، ولا داعي لذلك مطلقاً الآن، سيما وأنه لا توجد أية أدلة إدانة يمتلكها أي طرف ضد الطرف الآخر، فلا أدلة على تصدير المصريين لثورتهم، ولا أدلة على محاربة السعوديين لها!!
5. في الحقيقة يعيش الشعب السعودي بفضل الله تعالى في رخاء وسعة من العيش ولله الحمد ـ نسأل الله تعالى أن يديم فضله ويحفظ نعمه عليهم ـ ولا تدخر الحكومة السعودية جهدا ولا وسعا في سبيل تحقيق الرفاهية للمواطنين، والمفارقة العجيبة في الموضوع أن الحكومة السعودية متقدمة على شعبها في ميدان التحديث الاجتماعي.
ثانيا:
تروِّج بعض وسائل الإعلام لفكرة استعباد السعوديين للعمالة الأجنبية، وهذا الزعم في الحقيقة غير صحيح، ولا يمثل ظاهرة بأي حال من الأحوال، نعم هناك ممارسات خاطئة ولا شك، بل قد تُرتكب انتهاكات خطيرة لحقوق بعض العمال الأجانب في المملكة، وهذا وارد في أي مجتمع بشري ويعالج ويُقَوَّم عن طريق القضاء، لكن لا يجوز بأي حال تضخيم ذلك الأمر واعتباره ظاهرة؛ إذ يبقى مجرد حالات فردية يجب متابعتها بكل شفافية، والوصول فيها إلى حلول عادلة ومنصفة لجميع الأطراف.
ثالثا:
تخوِّف بعض وسائل الإعلام المصريين من طرد أكثر من مليوني مصري يعملون في المملكة تمثل تحويلاتهم مصدرًا مهما من مصادر الدخل القومي لمصر، وأعتقد أن اتخاذ السلطات السعودية لمثل هذا القرار أمر مستبعد تماما نظرًا لتعقيداته الاقتصادية والاجتماعية داخل المملكة، فهي تحتاج حتمًا لهذا العدد الضخم من العمالة الأجنبية لديها (ما يزيد على سبعة ملايين عامل) وإلا لما جلبتهم إليها منذ البداية، كما أنهم يقومون بدور كبير في صناعة النهضة السعودية الحديثة ولا يمكنها الاستغناء عنهم بسهولة، إضافة إلى أن المملكة تحرص قطعاً على وجود توازن عددي بين جنسيات العمال الأجانب لديها تلافيا لحدوث أية إشكاليات مستقبلية من هذا النوع، ورغم ذلك فلي وجهة نظر أخرى في الحقيقة، فهناك عامل آخر يؤثر في هذه القضية وهو "الرزق" فنحن المسلمين نؤمن بأن أرزاق الخلق محددة سلفاً وليست بيد أحد من العباد، فعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن أحدكم يُجْمَع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نُطْفَة، ثم يكون عَلَقَة مثل ذلك، ثم يكون مُضْغَة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه مَلَكًا، و يؤمر بأربع كلمات، ويقال له : اكتب عمله، ورزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح..." ( صححه الألباني).
رابعا:
يزعم البعض أن المملكة تخشى صعود الإخوان المسلمين وتوليهم الحكم في مصر، ويدعي آخرون أن هناك ضغوطًا أمريكية على دول الخليج لعرقلة مسيرة التحول الديمقراطي في مصر، وربما يأتي في هذا السياق تصريحات بعض الساسة الخليجيين (...)، وربما يأتي ضمن هذا التوجه الزَّجُ بالموضوع السياسي في الخلافات العمالية القليلة ومشاكل بعض المصريين في المملكة، والتصعيد في هذا الاتجاه باستدعاء السفير السعودي للتشاور، وأظن في الحقيقة أن هذا الربط مرفوض وعار من الصحة تماما، والأمر لا يعدو كونه خلافا بسيطا يختص بعدد قليل جدا من العمالة المصرية في المملكة (نحو ثلاثة آلاف حالة من مليوني عامل، أي واحد ونصف في الألف!!) والمملكة نفسها أعلنت مرارا احترامها الشديد لإرادة الشعب المصري، وترحيبها بالتعامل مع أية رئيس أو حكومة يختارها، والإخوان المسلمون كغيرهم من القوى السياسية المصرية يكنون للمملكة كل الحب والتقدير والاحترام، ويعدُّونها الناصر والمعين في أي مشروع نهضة قادم نظراً لحجمها وثقلها الكبير عربيا وإسلاميا ودوليا.
خامسا:
يدعي البعض أن المملكة وهي قوة اقتصادية كبيرة وإحدى دول مجموعة العشرين تستغل قوتها الاقتصادية للعب دور في المنطقة على حساب مصر، وأنها تسعى لخنق مصر اقتصاديا، وفي سبيل ذلك تقوم بالإيعاز لعدد آخر من دول الخليج بعدم دعم الاقتصاد المصري لعرقلة مسيرة الثورة المصرية، وأجزم أن هذا الخطأ الاستراتيجي لا يمكن أن تقع فيه المملكة التي تحرص على احتضان أشقائها العرب وخاصة الشقيقة الكبرى مصر، ثم إن التخلي عن دعم مصر اقتصاديا في هذه المرحلة الحرجة يمهد الطريق أمام طهران لتوثيق علاقتها بالقاهرة عبر إلقاء طوق النجاة إليها، وقد سمعناه منذ أشهر استعداد إيران لتقديم حزمة استثمارات في مصر بعدة مليارات مقابل عودة العلاقات الطبيعية فورا بين البلدين، لكن مصر لا تزال ترفض هذه الصفقة حرصا على المصالح العربية العليا، وخاصة مصالح دول الخليج التي لا تستطيع بمفردها الوقوف أمام المطامع الإيرانية؛ ولعل ذلك يفسر لنا دعوة دول مجلس التعاون الخليجي لكلٍّ من المغرب والأردن بالانضمام للمجلس.
سادسا:
تدعو بعض الأصوات الناعقة إلى مقاطعة موسمي الحج والعمرة اعتراضا على سوء معاملة الرعايا الأجانب، وهذا لإحراج السلطات السعودية أدبيًّا وإضعاف بعض مصادر قوتها الناعمة، إضافة لإلحاق بعض الخسائر الاقتصادية بها من خلال حرمان المملكة من رسوم دخول أكثر من مليون مصري للمملكة كل عام قاصدين الحج والعمرة، فضلا عما ينفقونه من أموال طائلة خلال مدة إقامتهم في المملكة، وفي الواقع هذه الفكرة مرفوضة رفضًا تاما وقاطعاً من قِبَل الشعب المصري كله وفاءً وعرفانًا لما يلمسونه من عناية المملكة العربية السعودية الفائقة بالحرمين الشريفين: ملكاً وحكومةً وشعبًا، وحرصها على تقديم كافة الخدمات للحجاج والمعتمرين والزوار، وليس من المروءة ولا من مكارم الأخلاق الشَّغَبُ على المملكة في هذا الجانب بسبب خلافات عارضة، أو لمجرد مماحكات سياسية تافهة!! كما أن أخلاق الشعب المصري العظيم المعروف بالوفاء وعدم نكران الجميل لا تجعله يُقْدِم أبدًا على فعل ذلك.
وأخيرا نرجو جميعا مصريون وسعوديون أن يعود السفير السعودي سريعا إلى بلده مصر أرض العروبة وقلعة الإسلام، ونتمنى أن تُحل جميع المشاكل العالقة بين الجانبين في إطار من الإخوة والتفاهم والاحترام المتبادل!!
* كاتب إسلامي مصري