التجلي اللغوي للربيع العربي
د. فؤاد عفاني
باحث من المغرب
لم تكن الثورات العربية حركات احتجاجية يؤججها الهاجس السياسي أوالاجتماعي فحسب. بل كان البحث عن الذات هو المكون الأساس الذي أوقد بشكل كامن لهب تلك الثورات. فالبوعزيزي "النموذج" لم يخطر بباله أن يفتح فعله الباب على مصراعيه أمام ربيع أمة بأكملها. وفعله،الذي قد يكون لا إراديا، هو في جوهره بحث عن الذات/ عن الأنا المجهضة التي اضحت ذرة داخل منظومة "نظام" يعيش في برجه العاجي بعيدا عن آمال وألام الشعب.
لو توقفنا هنيهة وتأملنا موقع البوعزيزي داخل بينية الثورة لوجدناه يمثل تجليا أو بتعبير أدق "نموذجا" يستوعب حالة المجتمع ككل. فالبوعزيزي/ الفرد قد أوقد النار في نفسه هروبا من "حياة اللاحياة" إلى "لا حياة الحياة" إيمانا منه أن لا وجود سيكون أسوء من الوجود الواقع. وفي الوجهة المقابلة كان الحافز الرئيس للمجتمع التونسي، وإن تبدى لنا في ظاهره أنه ردة فعل لما وقع للبوعزيزي بادئ الأمر. إلا أن الحقيقة عكس دلك تماما، فقد كان ذلك المجتمع أيضا يبحث عن ذاته ويطمح إلى وجود أفضل وإلا لكان "الثائرون" قد استكانوا أمام أولى تمظهرات السلطة القهرية كما هو حال جل الحركات الاحتجاجية البسيطة.
تمظهر "البحث عن الذات" كامن في لغة الثورة ذاتها، فقد تكلم الشعب أخيرا موظفا ضمير المتكلم "الشعب يريد إسقاط النظام" هاته العبارة التي تحبل بشحنة انفعالية متفجرة على مستوى التلفظ أولا لكون حروفها تتسربل بنغمة إيقاعية قريبة من الإيقاع العسكري. ثم على المستوى الدلالي ثانيا، فجل الشعارات التي كانت تخاطب النظام قبل الثورة تميزت تركيبتها اللغوية باللاتوازن، إذ لو أننا قسمنا ملفوظات عباراتها إلى حقول معجمية لوجدنا أغلبها موجه لمدح النظام في حين يقتصر المتكلم/ الشعب بما قل من ألفاظ دالة على الخضوع والاستكانة. لكن، مع الثورة تغير الخطاب فالمتكلم/ الشعب هو الذي يريد وهو الذي يسقط ولم يتبق من النظام إلا اسمه دون أي إضافة أو صفة، فالشعب (جمع) وفاعل لكونه (يريد) أما النظام فهو مفرد وغير فاعل.
نعود الآن لنؤكد على حقيقة أن الأمر لا يتعلق بحركة احتجاجية عادية تطورت عشوائيا، بل هي نسق كان يحمل بذرة التناسل داخل رحمه؛ إن الشعب الثائر لم يكن يسعى وراء الإطاحة بالرئيس فقط بل بتغيير النظام كله، لقد صار الشعب يدرك أن الأزمة التي خذرته لعقود لا تقتصر على رئيس فرد وحده، بل تتجلى في نظام بأسره. وبالتالي فالتغيير يجب أن يشمل كافة مناحي الحياة. فإسقاط "النظام" يستوجب المرور من مرحلة اللانظام بحثا عن "نظام" جديد ، وليس من الضروري أن يكون الفاعل هنا مدركا لطبيعة المرحلة الأخيرة وإلا فإنه لن ينتفض أبدا. إن المهم في الثورات ليس هو ما بعد الثورة إنما في اشتعال لهب الثورة التي تعد المرحلة الأصعب في مسلسل التغيير، أما المستقبل فهو معطى وفتوح على كل الاحتمالات.
تمظهر لغوي خر يتمثل في الحضور القوي لفعل الأمر، هذا الفعل المنزه عن "التعويم" فهو يحدد المتكلم والمخاطب والحدث، فالمتكلم في "ارحل" هو الشعب والمخاطب الرئيس/النظام والحدث هو الرحيل. إننا هنا أمام عناصر الخطاب الثلاثة الواضحة الهادفة إلى تحقيق تواصل مباشر.
ولا بد هنا من استحضار الكثافة الدلالية التي يزخر بها فعل الأمر في اللاوعي الجمعي العربي، فـــ"اقرأ" غير الوجود الإنساني و "ارحل" غير وجود شعب. وإذا كانت القراءة التي حكمت بتحول الرسول صلى الله عليه وسلم من حالة الأمية إلى وضعية الذات القارئة الواعية المتملكة لمفاتيح التجاوب مع أسرار الوحي، فإن الرحيل الذي يطلب من السيد الرئيس/النظام هو انتقال من حالة "النطام" المسكون باللانظام إلى وضعية الفوضى التي قد يتمخض عنها نظام بمفهوم جديد.
إن الخطاب اللغوي الذي تبناه الربيع العربي لم يستق معجمه من الحقل السياسي أو من لغة راقية اجتماعية تناسب وضع المخاطب إنما هي إفراز اجتماعي بسيط نابع من لغة متداولة تعبر بعمق عن ذات المتكلم. لهذا السبب تجد التباين الشاسع بين لغة النظام الموظف لخظاب سياسي يحتكم في تفسيره إلى معرفة بالاصطلاح السياسي وبين خطاب الشارع الذي كانت لغته واضحة بعيدة عن أي غموض. ويكفينا هنا أن نستحضر الفرق بين مطالب المصريين لمبارك بـ"الرحيل" وإعلان عمر سليمان "تخلي" الرئيس عن السلطة. فالرحيل مغادرة فورية وغير مشروطة، أما التخلي ففعل إرادي وبإمكان المتخلي استعادة ما تنازل عنه.
إجمالا فإن الربيع العربي قد استحدث أسلوبا ثوريا رائدا؛ صمودا وأهدافا ولغة مما خول له قدرة على الانتشار تجاوزت رقعة العالم العربي لتيستلهمها الآخر بشتى ألوانه.