النَّواعيرُ الثَّائرةُ

مسلم الميداني

نواعيرُ حماةَ، وما أدراك ما نواعيرُ حماةَ، تلك التي تدورُ وتدورُ، دون كلال أو مَلَلٍ، وكأنَّها في دورانِها تتحدَّى الطغاةَ والظَّالمينَ الذين استباحوا حُرمَةَ المدينةِ، وعَاثُوا فيها فسادًا؛ قتلًا، وإبادةً، وتدميرًا. صَرِيرُهَا يقول للقتلةِ والمجرمينَ: مهما نشرْتُم من موتٍ، وأَزْهَقْتُم من أرواحٍ، فسأبقى أرفعُ الماءَ من سُفْلٍ إلى عُلْوٍ، وأنشرُ أسبابَ الحياةِ، ليجريَ في شرايينِ المدينةِ ماءً طَهورًا يسقي بذورَ العِزِّ والإباءِ في قلوبِ الثَّكَالى والأَيَامَى والأيتامِ، ولِيَرْتَوُا من معاني الكرامةِ والصُّمودِ والتَّحدِّي، حتَّى يغدوَ صغيرُ القومِ الذي نَجَا من القتلِ كبيرًا، يمضي في دروبِ التَّحرُّرِ، ويسعى لبناءِ مجدٍ جديدٍ، وعهدٍ جديدٍ، تكون فيه الدَّولةُ للحقِّ وأهلِهِ.

لم تتوانَ النواعيرُ عن أداءِ رسالتِها الساميةِ يومًا من الأيامِ مُنْذُ الثَّمانينيَّاتِ من القرنِ الماضي، ولو عَلِمَ بحقيقتِها المجرمون لقصفُوها، ودفنُوها في قاعِ العاصي، ولكنَّ الناعورةَ لا تبوحُ بأسرارِها إلَّا للأحرارِ الأوفياءِ الذين تربَّوا في أكنافها، وراقبوها في دورانِها الصَّامتِ المستمرِّ، يستلهمونَ منها الدروسَ والعِبَرَ. 

 وها هو صغيرُ النَّاعورةِ قد شبَّ عن الطَّوْقِ، وغدا ممتلئًا حيويَّةً، وشبابًا، وعزيمةً، وقوَّةً، قد ناهزَ الثلاثين من العمر، تَمُورُ الآلامُ والأحزانُ في صدرِه مَوْرًا، وتُلاحِقُهُ صورُ الدَّمارِ والخرابِ في ليلِهِ ونهارِهِ، وتُطارِدُهُ آهاتُ الثُّكْلِ، ودموعُ اليُتْمِ في حِلِّهِ وتَرْحالِهِ، يَشْرَئبُّ بِعُنُقِهِ نحوَ الخلاصِ، وينتظرُ اللَّحظةَ الحاسمةَ.

ثلاثون سنةً مرَّتْ، وكأنَّها دهرٌ طويلٌ طويلٌ، فَوَطْأةُ القمعِ، والتَّرهيبِ، والإذلالِ، والتَّعذيبِ، والسَّجْنِ، والتَّشريدِ، لم تكنْ بأقلَّ من وَطْأةِ المجزرةِ نفسِها، حتَّى صارَ الحَيُّ يمرُّ بالميِّتِ في قبره، فيقولُ: يا ليتني كُنْتُ مكانَهُ.

وتمضي النَّاعورةُ في دورانِها، وماؤها يسقي جذورَ الثَّورةِ في القلوبِ المعذَّبةِ الجريحةِ. ويا عجبًا لماءٍ يُشعِلُ النارَ، ولا يُطفِئُها، ويزيدُها أُوارًا، ولا يُخْمِدُها! تلك المياهُ التي اختلطَتْ بدماءِ الأبرياءِ في طبقاتِ الأرضِ، ثُمَّ تفجَّرَتْ من منابِعِها، وقد استحالَتْ وَقودًا لجَذْوةِ الثَّأرِ في نفوسِ الحَمَوِيِّين.

ولكنْ بعيدًا عن حماةَ ونواعيرِها، وبالقربِ من المسجدِ الأُمَوِيِّ في قلبِ العاصمةِ دمشقَ، انطلقَتِ الشَّرارةُ الأولى للثَّورةِ، ثُمَّ شبَّتْ نارُها واسْتَعَرَتْ في مدينةِ درعا، وقُرَى حَوْرَانَ، وتعالَتْ ألسنةُ اللَّهبِ حتَّى بلغَتْ قريبًا من العَنانِ في حِمْصَ، وتَطايرَ الشَّرَرُ إلى اللَّاذِقِيَّةِ، وبانياسَ، وغيرِهما. ومدينةُ النَّواعيرِ بقيَتْ صامتةً صمتًا مُسْتَغْرَبًا، والعالمون يتطلَّعون إليها، ويَسْتَجْلُون حالَها، ويتحسَّسُون أخبارَها، وهم يخوضون في أمرِها كُلَّ خَوضٍ، ويَتَظَنَّونَ كُلَّ ظَنٍّ، ثُمَّ لم يَلبَثُوا أنْ جاءَهُمْ من ساحةِ العاصي ما بدَّدَ الظُّنونَ الكاذبةَ، وأظهرَ الحقيقةَ النَّاصعةَ؛ فخرجَ أهلُ حماةَ عن بَكْرةِ أبيهم خروجًا لم يُدانِهم أحدٌ فيه، بصفوفٍ مُنظَّمَةٍ، وكلمةٍ مُوَحَّدةٍ، وهِمَّةٍ عاليةٍ، وبطولةٍ نادرةٍ، وأعدادٍ باهرةٍ، وهُتافاتٍ مُبدِعَةٍ جعلَ المجرمون لمن يأتي بحَنْجَرَةِ صاحبِها مالًا طائلًا. فَعَلِمَ اللبيبُ أنَّ صمتَ الحَمَوِيِّينَ كان صمتَ تخطيطٍ وتنظيمٍ، لا صمتَ خوفٍ وتخاذلٍ، وصارت حماةُ في مقدِّمةِ القافلةِ والمدنُ من ورائها تسيرُ.

الجماهيرُ في كلِّ سوريةَ اليومَ تثورُ، والنَّواعيرُ ماتزالُ في حماةَ تدورُ، وترفعُ الماءَ من سُفْلٍ إلى عُلْوٍ، وهي في صمتِها المعهودِ تَخْطُبُ بالثُّوَّارِ أبلغَ الخُطَبِ، فتقول: ((أنا ما وقفْتُ عن الدَّورانِ يومًا، أَمُدُّكُمْ بماءِ الحياةِ، ولولا دوراني؛ لَبَقِيَ الماءُ أسفلَ منكم، ولما ازدهرَتْ أرضُكم، وأينعَتْ ثمرتُكم، فليكُنْ لكم دأبٌ كدأبي، ولْتَمْضُوا في ثورتكم حتى ترتقُوا من حضيضِ الذُلِّ والهوانِ إلى قِمَّةِ السُّؤدَدِ والمجدِ، فتزدهرَ نفوسُكم، وتحيَوا حقَّ الحياةِ أعزةً أحرارًا، واجعلُوا غَضْبَتَكُم خالصةً لواهبِ الحياة، فهو الذي يرفعُ، ويخفِضُ، ويُعِزُّ، ويُذِلُّ، وقد سخَّرني لكم دهرًا، أسقيكم بما يُرضيكُم، فاسلكُوا في ثورتِكُم السبيلَ الذي يرضيه، فما خابَ من سعى لرضاه)).