ورقة حول المشروع الفكري للمرحوم محمد عابد الجابري
ورقة حول المشروع الفكري
للمرحوم محمد عابد الجابري
د. سعيد الغزاوي*
الحلقة الأولى : حول العقل والمنهج لتجديد التفكير في مشروع متجدد .
لم تجد هذه الورقة حين إعدادها أدق من التعبير الذي اختاره المرحوم الجابري لوصف الحالة الفكرية التي تعيشها الأمة ، والوسيلة التي تجعلنا أوفياء لتراثه من جهة وفعالين في الطريقة التي نستثمربها فكره من جهة أخرى : " تجديد التفكير في موضوع من الموضوعات معناه إعادة بناء تصورنا له على ضوء ما حصل من تطور ، إن في هذه الموضوعات نفسها أو في رؤيتنا لها وطريقة تعاملنا معها . وهذا ما يعبر عنه بلفظ جديد على خطاباتنا ورؤيتنا ، " لفظ التحيين " من"الحين " ، ونعني به جعل المسألة في وضع مناسب للتطور الحاصل حين طرحها . وكان المتكلمون في الإسلام يعبرون عن ذات المعنى " بتجديد النظر " ، وهو ما عبرنا عنه " بتجديد التفكير " " سلسلة مواقف ع 25 " .
أما عملية التحيين أو التجديد فهي التي يحددها في قوله : " فالنموذج الذي يجب استلهامه من أجل إعادة بناء الذات ، ذاتنا نحن ، وتحصينها وتلقيحها ضد الاستلاب والذوبان والاندثار ، ينبغي ألا يكون من نموذج " السلف " الذي يقدم نفسه كعالم يكفي ذاته بذاته ، بل يجب أن يشمل جماع التجربة التاريخية لأمتنا مع الاستفادة من التجربة التاريخية للأمم التي تناضل مثلنا من أجل الوجود والحفاظ على الوجود . وأيضا ـ ولم لا ؟ ـ من التجربة التاريخية للأمم التي أصبحت تفرض حضارتها كحضارة للعالم أجمع " " سلسلة مواقف ع 26 " .
أما العدة الأخلاقية التي يقترحها المرحوم الجابري لمن يريد التحيين أو التجديد فمستلهمة من الجاحظ والشهرستاني ، لأنهما ابتعدا عن أية نزعة عنصرية ، عرقية أو دينية أو طائفية . لقد اعتمد كل منهما الجانب المعرفي الإبستيمولوجي أساسا للتمييز بين الشعوب والأمم . وهذا مقياس موضوعي حضاري محايد " " سلسلة مواقف ع 46 " .
السؤال الجوهري الذي ستسعى الورقة إلى طرحه على المشاركين في هذا اليوم الدراسي أساتذة وشبابا واعدا هو : ما هو سر هذه الجاذبية والإبهار في المشروع الفكري للمرحوم الجابري ؟ ؟؟؟؟ .
هل هو أسلوبه البياني المبسط في الكتابة ؟ أم انشغاله بالعقل العربي منذ ثمانيينات القرن الماضي ؟ أم قدرته على التأليف بين مجموعة من المناهج التي قد تبدو متنافرة " تاريخي ، وصفي ، بنيوي ، بنيوي تكويني ، إبستيمولوجي ، أركيولوجي ، فيلولوجي ..... " لكن قدرته على الاستيعاب والتوظيف الذكي لهذه المناهج مكنته من الوصول إلى مجموعة من الخلاصات والنتائج في كتبه " تكوين العقل العربي " و " بنية العقل العربي " و " العقل السياسي العربي " و " العقل الأخلاقي العربي " .
لا يرغب هذا اليوم الدراسي من المشاركين أساتذة وشبابا أن يسقطوا في أسر جاذبية المرحوم الجابري فيعيدوا إنتاج فكره بصيغ أخرى ؟ فمثل هذا التراكم لا يضيف إلى الفكر العربي شيئا ، بل نريد منهم تجاوز هذا الفكر بنوع من الاحترام والأدب مع هذا المفكر الذي استطاع تجاوز أغياره ومعاصريه ، واستطاع أن يستثيرهم بالكتابة والنقد والمراجعة قبولا ورفضا وإضافة .
وسنخصص أولى حلقات هذه السلسلة من الأيام الدراسية المخصصة للمرحوم الجابري لموضوعين متلازمين هما " العقل والمنهج " في كتبه الأربعة السالفة الذكر .
بدأالمشروع الفكري للجابري عام 1980حين اصدر كتابه "نحن والتراث" الذي كان اشبه باعلان نظري ومنهجي عن الدراسات المتعمقة التي اصدرها من بعد, تحت عنوان "نقد العقل العربي".وصدر الجزء الاول بعنوان "تكوين العقل العربي",واعقبه الجزء الثاني بعنوان "بنية العقل العربي".
وفي هذا الجزء بالذات اكتشف الجابري - بناء على دراسة متعمقة ثلاثة انظمة فكرية للعقل العربي: البيان والبرهان والعرفان.
وقد ادى صدور هذين الكتابين إلى أصداء بعيدة المدى في الفكر العربي المعاصر:
ويشهد على ذلك ليس فقط الانتشار الواسع لأفكار الجابري في المشرق والمغرب على السواء, ولكن اهم من ذلك كمّ المناقشات النقدية التي دارت حولها في عديد من الندوات الفكرية والمنتديات الثقافية وكيفها.
وانتقل الجابري بعد ذلك الى السياسة فأصدر كتابه "العقل السياسي العربي" الذي اعتمد في كشف مختلف تجلياته على ثلاثة مفاهيم رئيسة: العقيدة والقبيلة والغنيمة. وها هو الجابري يعود الينا هذه الايام من جديد بكتابه الرابع في سلسلته القيمة وعنوانه كما ذكرنا "العقل الاخلاقي العربي".
ويحاول المؤلف في هذا الكتاب ان يحلل نقديا نظم القيم في الثقافة العربية.
مفهوم العقل : وأول ما ينبغي الوقوف عنده من الناحية المفاهيمية هي أن العقل الذي سيفحص عنه الجابري مجرد آلة للإنتاج النظري لكنه لا يخلو من تأثيرات الواقع الحضاري الذي ينتمي إليه،و منه اقتبس خصوصيته الثقافية،و هذا ما عبر عنه الجابري في تعريفه الأولي للعقل العربي بقوله :"أداة للإنتاج النظري صنعتها ثقافة معينة لها خصوصيتها،هي الثقافة العربية بالذات،الثقافة التي تحمل معها تاريخ العرب الحضاري العام و تعكس واقعهم أو تعبر عنه و عن طموحاتهم المستقبلية كما تحمل و تعكس و تعبر في ذات الوقت،عن عوائق تقدمهم و أسباب تخلفهم الراهن".
1 - " تكوين العقل العربي ":
|
ركز الجابري على تحديد المفاهيم, ما المقصود بالعقل العربي؟ ما علاقته بالثقافة العربية؟ ما طبيعة الحركة في هذه الثقافة, وكيف يتحدد زمنها؟
و المشكل الذي اعترض الكاتب هومتى كانت بداية تشكيل العقل العربي و الثقافة العربية, وما هو الإطار الزمني الذي تعود إليه هذه الثقافة و العقل العربي.
وفي القسم الثاني اهتم الدكتورالجابري بمكونات العقل العربي ,و اعتمد في ذلك على المنهج التكويني حيث اتبع مراحل تطور العقل العربي انطلاقا من عصر التدوين وهو بداية العقل العربي في نظره ,غير أن الملاحظ في هذا القسم مرة يتكلم عن العقل العربي ومرة يتحدث عن الثقافة العربية, ولهما عنده نفس المعنى فالثقافة هي العقل و العقل هو الثقافة.
إن المنهج البنيوي التكويني لا يعزل الثقافة عن المحيط الاجتماعي و الأيديولوجي بل يدرسها في إطارها المعرفي التكويني العام.
و الدكتور الجابري يحاول في هذه الدراسة المفصلة إبعاد الذات عن النقد , وهو لا يمارس النقد من أجل النقد بل من أجل التحرر مما هو ميت أو مخشب في موروثنا الثقافي .. بتصرف عن محمد يوب من مقالته المنشورة بتاريخ في 30/ 12 / 2009 م .
2 - " بنية العقل العربي :
ولتحديد المرجعيات الفكرية المُؤسسة والمُؤثرة في مشروع "نقد العقل العربيّ" كان لا بُدّ من ممارسة شيء من السَّبر والحفر في البيئة الفكرية والثقافية للدكتور الجابري، ثم التَّعريج على عرض أعماله ومُؤلفاته، مصحوباً بِجَردٍ كْرُونُولوجي مختصر لكُتب وإصدارات صاحب المشروع. وكان لا بُد لنا من مُساءلة المنهج الذي سلكه الجابري في قراءته النَّقدية للعقل العربيّ، وتنطلق هذه المُساءلة المنهجيّة للمشروع الجابري من زوايتين: تتطلَّع الأُولى إلى منهج الكتابة عند الجابري، وتُركِّز هذه الزواية على إكتشاف منهج الكتابة لديه من جهة طرح الأفكار وطريقة كتابتها وترتيبها وتنظيمها الموضوعي أثناء بناء الكتاب، ثُم الإنتقال بعد ذلك إلى طريقة بناء المشروع الجابري بصورته الكُلية والمُكوَّن من عدَّة كتب، ومنها الأجزاء الأربعة الجامعة لنقد العقل العربيّ، خصوصاً تلك التي تمَّ في هذا البحث تقديم مُحتوياتها بشكل مُركز ومُختصر.
أما الزاوية الثّانية في مُساءلة المنهج، فقد تصدَّت للمنهج التحليلي الذي اعتمده الدكتور الجابري في دراسته النقدية الإبستمولوجية لما أسماه بـ"نقد العقل العربيّ"، ولم نتوقف في هذه الزاوية على عرض المنهج التحليلي الذي اعتمده الجابري في مشروعه هذا فقط، بل تجاوزنا ذلك إلى البحث عن المصادر المُؤسسة لهذه المنهجيّة، لمعرفة سياقها في بيئتها الأصلية، ثم تتبّع تطبيقاتها في سياق التُّراث العربيّ الإسلاميّ حسب التطبيق الجابري.
3 - "العقل السياسي العربي " اعتمد الجابري في هذه الدراسة على معرفة مراحل العقل العربي في اشتغاله بالعمل السياسي ،
إن العقل العربي في نظر الجابري لم يكن مستقلا بذاته ولم يتحرر من قيده إنه كان خاضعا لسلطة الدين،إنه عقل مسلوب يستمد قوته من الله تعالى فلا يتوفر على أدوات وما عنده من أدوات فهي ثابتة غير متحركة، لقد رأى أن الإسلام يسير في اتجاهات متعددة في العقائد وفي العبادات.......ففي هذه المجالات كان متطورا ومتجددا لكنه كان متعثرا وأحيانا جامدا في السياسة.
إن العقل السياسي العربي في اعتقادي ظهر جليا في عهد الرسول عليه السلام عندما كان يجلس ويحاور صحابته وكان يأخذ برأيهم في اتخاذ القرارات وفي كثير من الأحيان كان الرسول عليه السلام يأخذ برأي أصحابه : أنتم أدرى بشؤون دنياكم.
إن الرسول عليه السلام رسخ عند المسلمين مبدأ الشورى في الإسلام أمرهم شورى بينهم ، إن العقل السياسي العربي في هذه المرحلة مرحلة الرسول ومرحلة الخلفاء الراشدين تعتبر من أزهى العصور التي استخدم فيها العرب عقولهم ومارسوا فيها السياسة بالمفهوم الصحيح .
و الملاحظ في كتاب العقل السياسي العربي أنه يمشي في هذا الاتجاه أي تنويهه بمرحلة الوعي الذاتي التي كان الرسول عليه السلام يخط للعرب أسلوبا جديدا في السياسة بعيدا عن العصبية القبلية إنه كان لا يفرق بين الناس و أعطى لكل جنس أو عرق حق المساواة في الإسلام فمقياس التفاضل بين الناس هو التقوى ، وهذا الأسلوب هو الذي تربى عليه الصحابة فكانوا يحكمون بالعقل ويستمعون للمشتكي ويعطون الحق لصاحبه ، أصابت امرأة وأخطأ عمر هل هناك ديمقراطية في العالم أحسن من هذه الديمقراطية.
(العقيدة – القبيلة – الغنيمة) هذه هي محددات الفعل السياسي العربي منذ اضطهاد المستضعفين في مكة بداية الدعوة، والإمساك عن أبناء القبائل، ومنهم النبي عليه الصلاة والسلام الذي يمر على آل ياسر، ويصبرهم فكيف لم يقتل؟ مروراً بهجرة النبي -عليه الصلاة والسلام- وبناء الدولة، ثم إرسال جباة الزكاة، ثم الفتوحات وتقسيم الفيء، وهنا تدخل الغنيمة بعدما كان المهاجرون الأولون لا يحركهم سوى العقيدة؛ فالمسلمون الجدد والذين ارتدوا ثم عادوا للإسلام بالقوة، كل هؤلاء تدفعهم الغنيمة الموجهة بالقبيلة.
يرى الجابري أن (العقيدة – القبيلة – الغنيمة) زادت وطأتها على العقل السياسي في العصر الحديث إثر الهزائم المتتالية ألتي أصابت العرب؛ فبعد أن كان الطموح النهضوي العربي يرمي إلى تجاوز تلك المحدّدات الموروثة، وإقرار محددات جديدة عصرية؛ إذ بالنكسات والإحباطات التي ترافقت مع تلك الهزائم تفتح الباب على مصراعيه لعودة (المكبوت)، أي ظهور مفعول المحددات الثلاثة الموروثة. فعادت برأيه العشائرية والطائفية والتطرف الديني لتجعل: القبيلة محركاً للسياسة، والريع جوهر الاقتصاد، والعقيدة تبريرية أو خارجية نسبة إلى الخوارج. وبناءً عليه ولتجاوز هذه المحنة يرى الجابري ما يلي:
أ - تحويل القبيلة في مجتمعنا إلى لا قبيلة: إلى تنظيم مدني سياسي اجتماعي أحزاب نقابات، جمعيات حرة، مؤسسات دستورية. وبعبارة أخرى بناء مجتمع فيه تمايز واضح بين المجتمع السياسي (الدولة وأجهزتها)، والمجتمع المدني (التنظيمات الاجتماعية المستقلة عن أجهزة الدولة)..
ب - تحويل (الغنيمة) إلى اقتصاد (ضريبة)، وبعبارة أخرى تحويل الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد إنتاجي.
ج - تحويل (العقيدة) إلى مجرد رأي: فبدلاً من التفكير المذهبي الطائفي المتعصب الذي يدعي امتلاك الحقيقة يجب فسح المجال لحرية التفكير، لحرية المغايرة والاختلاف
بتصرف من مقالة "محمد يوب " بتاريخ 17 / 01 / 2005 م .
4 - العقل الأخلاقي العربي : في هذا الجزء الرابع من مؤلفات المرحوم الجابري ابتدأ كتابه بطرح مسألة المنهج الذي اعتمده في هذه الدراسة بالإضافة إلى طرح مسألة المصطلحات التي تختلف من دراسة لأخرى. فيما يخص المنهج فان الجابري اعتمد المنهج نفسه في الدراسات السابقة وهو المنهج البنيوي التكويني كما اعتمد على الدراسة التاريخية الوصفية ، ثم في مرحلة لاحقة اعتمد على التحليل البنيوي الذي من خلاله انطلق لمعرفة الإطار الاجتماعي للبنية و النظام الأخلاقي العربي أما بخصوص المصطلحات فقد استبعدت هذه الدراسة مصطلحات مثل المعرفة و البيان و البرهان إلى مصطلحات أخرى تعتمد على القيم و الأخلاق .
إن العقل الأخلاقي في نظر الجابري هو عقل جماعي كان في الجاهلية يعتمد على القيم و الأخلاق التي تعارفت عليها القبيلة وكان يحترمها و يقدرها وهي التي سماها بالموروث العربي الخالص ، ومع مجيء الإسلام حافظ على نفس القيم مع إضافة الجديد وذلك بتطويرها وتشذيبها لتكون صالحة للمجتمع الإسلامي الجديد وهي التي سماها بالموروث الإسلامي الخالص ،هو نفس المنظور أي المنظور القيمي و الأخلاقي الجماعي ، فالعلاقة بين الموروثين كانت علاقة تعايش و تساكن بالإضافة إلى أن القيم الأخلاقية العربية الإسلامية قد استفادت من الموروث الفارسي و اليوناني و الموروث الصوفي وهذا أعتقد بأنه كان في مرحلة لاحقة في مرحلة انحرفت فيها القيم الأخلاقية الإسلامية عن المسار الصحيح . " بتصرف من مقالة الباحث محمد يوب .
5 - إشكالية المنهج : هذه العلاقة شبه الجدلية لمراجعة العقل والمنهج عند الجابري هي التي يلح على توضيحها في مؤلفاته وبينها " العقل الأخلاقي العربي " فيقول : " أما عن المنهج فيمكن القول باختصار : إنه، في الأساس، نفس المنهج الذي اتبعناه في الأجزاء السابقة، وكنا قد حددنا خطواته الثلاث في كتابنا "نحن والتراث": التحليل التاريخي، المعالجة البنيوية، الطرح الإيديولوجي. والتعديل الذي سنقوم به هنا لا يخص هذه الخطوات نفسها بل فقط طريقة ممارستها. ذلك أننا سنمارس هذه الخطوات بصورة تركيبية. ومعنى هذا أننا لن نفصل "التكوين" عن "البنية"، كما فعلنا في "العقل النظري"، ولا "المحددات" عن "التجليات"، كما فعلنا في "العقل السياسي"، بل سنسلك مسلكا أقرب إلى مسلكنا في "تكوين العقل العربي". ولاشك أن القارئ يذكر أننا جعلناه قسمين : الأول بعنوان: "العقل العربي: بأي معنى؟ مقاربات أولية". والثاني: "تكوين العقل العربي: المعرفي والإيديولوجي في الثقافة العربي". وعلى غرار هذا النموذج جعلنا هذا الجزء قسمين كذلك : الأول "المسألة الأخلاقية في التراث العربي "، والثاني:"نظم القيم في الثقافة العربية: أصولها وفصولها".
وهكذا فلن نسجن أنفسنا في دائرة المفاهيم والرؤى الحديثة فنضيق -أو نوسع- من دائرة الأخلاق حسب الاتجاهات الفلسفية والسوسيولوجية والأنثروبولوجية والحقوقية المعاصرة، وبالتالي سنتحرر تماما من هاجسين: هاجس "الرد" على "الغربيين"، وهاجس "اكتشاف" قيم عصرنا في حضارة أسلافنا. إننا سنبقى نتحرك داخل تراثنا بوصفه تراثا. وأعتقد أن شيئا من "النفي" أو "الغربة" لن يترتب عن ذلك، فالتراث العربي الإسلامي يغلِّفنا تغليفا قويا. وإذا ادعى أحد منا أنه مستغن عن هذا الغلاف متحرر منه فليعترف أنه مسكون بهوية أخرى غير الهوية العربية الإسلامية. أما أن يكون غلافنا العربي الإسلامي لباسا قابلا للتجديد، ليغدو مناسبا لروح العصر وتحدياته ومتطلبات التقدم فيه، أو أنه قوقعة تكيف الجسد بدل أن يكيفها الجسد، فتلك مسألة أخرى، لن نطرحها هنا كما لم نطرحها في الأجزاء السابقة بصورة مباشرة. ومع ذلك فنحن لا نخفي أن مشروع "نقد العقل العربي" بأجزائه الأربعة محاولة لتحويل القوقعة إلى لباس لنا…
ويؤكد باحث جزائري على خصوصية المنهج الإبيستومولوجي في مؤلفات الجابري لكنه يؤكد على استلهام المدرسة الفرنسية : من خلال تبيان ثلاثة أمور: أولها؛ أن الهاجس الإبستمولوجي ظل على مر السنين يتبوأ منزلة خاصة في فكر محمد عابد الجابري. ثانيها؛ أنه ما كان اهتمام الجابري بالإبستمولوجيا من جنس «الإبستولوجيا للإبستمولوجيا». فما كانت هي مقصودة لذاتها، وإنما تُقُصِّدَتْ لغاية. وهذه الغاية هي نقد العقل العربي ـ مشروع الجابري الأساس. فإذن الغاية: نقد العقل العربي، والوسيلة: المنهج الإبستمولوجي. وذلك بما وشى عن توظيف وسيلي للإبستمولوجيا في فكر الجابري. ثالثها؛ أن الجابري ما اهتم بالإبستمولوجيا مطلق الإبستمولوجيا، وإنما اهتم بما يخدم مشروعه، فكان أن يَمَّمَ ،نحوالإبستمولوجيا الفرنسية ، ويحيل على أسماء بلانشي وباشلار وفوكو نماذج لمن أفاد من منهجهم .
هذا الغنى الفكري والمنهجي عند المرحوم الجابري يشكل أحد الدوافع للاهتمام به وتخصيص حلقة أولى من الأيام الدراسية حول " العقل والمنهج " ، من خلال سياحة فكرية ومنهجية في مؤلفاته الأربعة السالفة الذكر ، ومحاولة الوصول إلى أسباب الجاذبية والإبهار في كتاباته ، حتى نستلهم من تجربته الفكرية مادة لولادة شباب مفكر يدعم ويسند ما يشهده العالم العربي من تحولات لو قيضت للجابري الحياة إلى حين شهودها لاستبشر خيرا بتلق حسن لمشروعه الفكري المتجدد .
لا تدعي هذه الورقة عمقا فكريا وفلسفيا يغوص في تفاصيل العقل والمنهج كما يحسن ذلك أهل الفلسفة ، لكنها ورقة تروم الوفاء لجيل المفكرين المغاربة الرواد الذين أسمعوا صوتهم لإخوتهم في المشرق العربي وساجلوهم في عدة قضايا ومفاهيم مستحضرين مقولة العلامة عبد الله كنون عن النبوغ المغربي .
وإلى لقاء مقبل مع حلقة دراسية ويوم دراسي مقبلين .
* أستاذ النقد الأدبي
كلية الآداب ابن مسيك /جامعة الحسن الثاني المحمدية