صور ناطقة للتحوت والروابض 33+34+35
صور ناطقة للتحوت والروابض
33+34+35
أحمد الجدع
[33]
-- -----------------------------
الموهبة عطية إلهية ، يؤتيها الله من يشاء ، وتتفاوت الموهبة بين شخص وآخر ، فأنت ترى آلاف الشعراء ، فتحس عند سماعهم أنهم طبقات في الموهبة الشعرية .
وهناك أناس لم يؤتهم الله موهبة في الشعر ، وآتاهم مواهب في غيره ...
أنا أتحدث عن الشعر لأني أريد أن أعرض لمواقف تحوتية تواجه الشعراء ...
صديق شاعر أوتي موهبة متدفقة في الشعر ، ولكنه لم يؤت الغنى ، أهداني ذات يوم مجموعة من دواوينه ، وعندما قلبتها بين يدي وجدت ديواناً ليس له .
عجبت لذلك ، قلت له : هذا ديوان ليس من دواوينك ، لعله اندس بينها وهو ليس منها .
ابتسم وقال : بل هو ديواني وشعري ، منحته لصديق .
قلت : كيف تفعل ذلك ، وهل يمنح الرجل ولداً من أولاده لغيره ... مهما كان هذا "الغير !"
قال : لم أمنحه الديوان للصداقة ، بل منحته للحاجة ، ثم قال : أنا آتاني الله موهبة الشعر ، وهو آتاه الله المال الوفير ، هو أحب أن يكون شاعراً بالاستعارة ، فاشترى الموهبة أو استعارها وصار اسمه على ديوان شعر ، ثم صمت وقال : بل على دواوين !
قلت : كلها من شعرك ؟ قال : نعم .
قلت : أنا لا أوافقك على ما فعلت ، بل أجرِّمك ، إن ما فعلته يرقى إلى الجريمة .
نظر إليّ بعينين كسيرتين ولم يقل شيئاً .
وفي حادثة أخرى طلب رجل من صاحبه أن يختار له كتاباً من كتبه الكثيرة ، ويضع اسمه عليه لأنه يشتهي أن يرى اسمه على كتاب .
قال له صاحبه مازحاً : وكم تدفع ؟
صاحبه كان يظن أن الأمر من باب المزاح ، ولكنه عندما نظر في وجهه ، وجد الجدّ كل الجدّ يرتسم على سماته وقسماته .
بهت الصديق ، وقال بلا تردد : ألا تستحي ؟ ألا تخجل ؟
وانقطعت الصداقة بينهما .
أما ما بعد فقد سرق أحدهم ديوان شعر ونشره باسمه وأهدى نسخة منه إلى الشاعر المسروق !
حسبنا الله .
==========
[34]
-------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم .
لم يدع إسلامنا العظيم شيئاً إلا أرشد فيه إلى الطريق القويم ، وقد حدد لنا معالم وطلب منا أن ننتهي إلى هذه المعالم .
سور القرآن العظيم تبدأ بالبسملة : بسم الله الرحمن الرحيم .
وقد أمرنا رسولنا الكريم أن نبدأ بكل شأن ذي بال بهذه البداية الطيبة باسم الله الرحمن الرحيم وقد نبه هذا الرسول العظيم بأن كل أمر ذي بال لا يذكر فيه اسم الله فهو أبتر ، أي مقطوع النسب للبركة الإلهية .
وعندما بدأت سورة " براءة " بهذه الكلمة القاطعة قطع عنهم البركة الإلهية .
وعندما وقف زياد بن أبيه وألقى خطبته في أهل البصرة ولم يبدأها باسم الله قالوا إنها بتراء وشوهاء ، وصار اسمها الخطبة البتراء .
ولا زلنا والحمد لله حتى يومنا هذا نحرص على هذا الأمر الإلهي ، فنبدأ كل شأن من شؤوننا باسم الله الرحمن الرحيم .
ولكن نابتة من المسلمين نشأت مع الاستعمار الإنجليزي والفرنسي ثم الأمريكي واقتاتت على موائده ، وتشبعت بفكره ، ولم يعد في قلوبها ذرة من الإيمان ، أخذت " تأنف " من افتتاح شؤونها بهذا الشعار العظيم ، فإذا استمعت إليهم يخطبون أو يكتبون ترى كتاباتهم وخطبهم بتراء وشوهاء ، شاهت وجوههم .
ويبدو أن فضائياتنا ، أو معظمها اشترطت على مراسليها أن لا تذكر اسم الله ، فتسمع المراسل يقول : نعم ... كأنه يتحاشى اسم الله !!
وفي حفل توقيع المصالحة يتجاهل المتحدث باسم إحدى فصائل فلسطين أن يسمي الله في مفتتح خطابه ، يا أبناء فلسطين : لا نستعيد فلسطين إلا باسم الله ، ولا نستعيدها إلا إذا دوت هتافات جيوشنا الله أكبر ... الله أكبر ... هذه هويتنا ... وبها عزتنا ... وعليها نحيا ... وعليها نموت .
حسبنا الله .
==========
[35]
-------------------------------
أحببت أن أقضي الصيف في القاهرة ، وكنت آنذاك عزباً .
نزلت في الشقة التي كان يستأجرها أخي ، وكان هو مشغولاً بدراسته ، يذهب صباحاً ولا يأتي إلا في المساء .
كنا نختطف السويعات لنجول في معالم القاهرة الشهيرة ، ولكني كنت أقضي جل وقتي محشوراً بين جدران الشقة ، يمضي الوقت في انتظار عودة أخي .
اقترح علي أخي أن أتعلم الضرب على العود بدلاً من السأم من القعود ، وقال لي : أعرف رجلاً يعلم الضرب على العود ، وهو بالإضافة إلى ذلك يحمل بين جنبيه روحاً ظريفة ، وسوف أسرّ بمعاشرته والاستماع إليه ... ووافقت .
حضر الرجل يحمل عوده ... وما إن جلس بعد أن سلم حتى أخذت أصابعه تلعب بأوتار عوده .
رحبت به ، وبدأنا الدرس الأول .
كانت تتخلل الدرس قفشات تملاً الجوّ مرحاً ، والحق أقول لكم : كانت استجابتي لقفشاته أكثر من استجابتي لأوتار عوده .
ذات يوم جاء أخي مبكراً من جامعته ، وجلس ثلاثتنا نتراشق الأحاديث المرحة ، قال أخي يكلمني : هل سألت الرجل عن عمله ؟
قلت : ولماذا أسأله وقد قلت لي بأنه معلم على العود .
قال : لا ... لا ، ليس هذا عمله ، إن له عملاً غير هذا .
قلت : وما هو ؟
التفت إليه أخي وقال : قل له ما هو عملك ؟
ابتسم الرجل وقال : هَتِّيف .
قلت : لم أفهم .
قال : هتيف يا أخي ... هتيف ، قال الكلمة وهو يفصل حروفها حرفاً حرفاً ...
قلت : لم أفهم بعدُ !
قال : هذه وظيفة في وزارة الداخلية ، ففي كل حيّ من أحياء القاهرة مجموعة من البلطجية (الزعران) أتولى قيادتهم ، وهم جاهزون لتلبية ما يطلب منهم ، وخاصة الهتافات بأنواعها .
ثم أكمل : إذا أراد الرئيس أن يخطب تأتينا من وزارة الداخلية ورقة فيها مجموعة العبارات التي يجب علينا أن نهتف بها ، فأعلمها لهؤلاء الذين يتبعون لي ، وأدربهم عليها حتى يتناغم الجميع ، فإذا بدأ الرئيس خطابه كانت القاهرة كلها تهتف بهتاف واحد !
وقس على ذلك إذا زارنا زائر أو نزل بنا أمر بـِخَيْرٍ أو بـِشَر ... والحبل على الجرار .
قلت : هات عودك أيها الهتيف .
وضع عوده جانباً وهو يقول : هذا كله أكل عيش يا أستاذنا الكريم .
حسبنا الله .