حديث الزعتري
الطيب عبد الرازق النقر
الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا
لعل الكلام الأثقل من الجندل، وأمرّ من الحنظل، الحديث الذي أدلى به منسق
الأمم المتحدة للعمل الإغاثي في السودان "علي الزعتري" لاحدي الصحف
النرويجية حيث أفاد في حديثه المتهافت أن السودان البلد الذي جحاجحة
سادة، وأبطاله زادة، وصناديدة قادة، يطمئن إلي الذل، ويستريح إلي الهوان،
لأجل ذلك أبوابه للنوال مشرعة، وقدوره من الضراعة مترعة، وجفانه من
الأنفة مفرعة، لهفي على السودان الذي أطرّ الشموخ شاربه، وزوى الإباء
حاجبه، فقد اعتاد على تطاول المترفين، ومساوي الموسرين، فنحن لا نعرف
أيها السادة وطناً عانى في دهره مرارة الجور والحيف مثل
هذا الوطن الذي لم تنفصم عروته، وتعظم كبوته إلا بمثل هذه الأحاديث الشوائل.
إنّ هذا الشعب الذي جمع أشتات المفاخر، إذابعثرنا عيوبه، وتتعبنا فواحشه،
وبحثنا في مخازيه، فلن نجده قد استخف بالأمانة، أو رتع في الخيانة، أو
أقام على المهانة، فأنى له وهو الذي يسرف في التصون، إن كان في التصون
اسراف، أن يرضى بالذل صاحبا، كيف لشعب يعلم جلياً معنى الكرامة، ويدرك
تماماً مدلول الإباء، أن يرمي نفسه في مثالب الضعة والصغار، فلا يعيش إلا
مجروح القلب، مقتول النفس، مطعون الوجدان، حديثك يا سيدي الفاضل نتعلم به
الصبر، ونتكلف فيه الاحتمال، ونغضي منه الجفن على قذى، ونطوي منه الصدر
على أذى، فنحن مهما ضعضعتنا القوادح، وأرهقتنا
الفوادح، وأضنانا السغب، فلن ندفع غائلته بذل السؤال، لن نمد أيادينا في
ضراعة وإن أبصرنا الموت مُوتِر قوسه، يجتث شأفتنا بوقع النبال،
فالسودانيون جميعاً يبتغون الكمال، ويسعون إليه، ويلحون فيه، و"التسول"
عندهم لا يرد حياضه ورود الهيم العطاش إلا من تخرّمته بوائق الدهر،
وطحطحته دوائر الأيام، ذلك الفقير المعدم الذي يضنيه المنع والجمود،
ويبكيه الإعطاء والجود، عركته الدنيا عرك الأديم، وداسته الفانية دوس
الحصيد، أمنيته التي تفجر في دواخله ينابيع السعادة أن يرى نفسه محمولاً
على أعواد المنايا، فالموت عنده يعد من النعم الجليلة،
والهبات الخطيرة، لأنه ملجأ حام، وسند حافظ، يقيه مطارح الهوان.
لحا الله سوء الظن بالعباد، ورمي شعب أغر طويل النجاد بالتزيد والافتئات،
فالسود الذين أشتهروا بين لداتهم بالعفاف والتصّون ينسِْبُ إليهم أحدهم
نقيصة التسول والعيش على صدقات الآخرين، وهُم من هُم في حب الكرامة التي
أقامها الله في صدورهم من غير قوائم، وأعلاها عندهم بغير دعائم، وبلادهم
قد آثرها الله بالنعم السوابغ، والرفد الروافغ، نشكره تعالى على سالف
مننه، ومتآلد أفضاله، ونسأله عزّ وجلّ وهو الذي فجر لنا الأنهار، وأرسى
لنا الجبال، ومهد لنا التلال، وأكثر لنا الغلال، أن يقينا شر من قويت
عدتها، وعمت مكيدتها، ولانت عريكتها، الأمم
المتحدة التي تحركها قوى فغرت فاغرتها، وثقلت في الأرض وطأتها، فديار
العرب والإسلام تحلبت لها الأفواه، وتلمظت لها الشفاه، واتقدت لها
الأكباد، نحن نعلم أيها العزيز الأكرم كيف تنصب الشراك، وتحاك الدسائس،
ونعرف من يدير رحى الحرب، ويمتعه سماع الطعن والضرب، ورؤية طرقاتنا مضرجة
بدمائنا عنده أرق من الهوى، وأشهى من الماء على الظمأ، فهو لا يروم إلا
جوارح مهشومة، وديار مهدومة، وخدود ملطومة، ولسان ينطق بالعضيهة والفرقة.