سوق الخضار.. وسوق الأفكار
عبد الله عيسى السلامة
· حين ينوي الرجل ، شراء خضار، لبيته ، يذهب إلى سوق الخضار، ويبحث عن أفضل الأنواع الموجودة ، ليشتريها ، ويصرف نظره ، عن الأنواع الرديئة ، والفاسدة ، والفجّة ، مهما مدحها له أصحابها ؛ لأنه يرى الخضار، بعينيه ، ويَميز كلاّ منها ، بعقله وخبرته .. وليس مستعدّاً ، لإفساد طعامه ، مسايرة لبائع الخضار، هذا .. أو ذاك !
أسواق الأفكار كثيرة ، هي الأخرى ، ومتنوّعة ، وتبيع أفكاراً مختلفة الأنواع ، بعضها:
* أفكار خاصّة ، للاستهلاك الشخصي : شراء بيت ، شراء أرض ، زواج ، تأسيس شركة .. ! وهذه الأفكار، يشتريها المرء ، لحسابه الخاصّ ، أو لحساب أسرته ! لذا ؛ فهو حرّ – بحسب الأصل - في اختيار مايراه الأفضل ، بينها . وقد يلجأ إلى مكاتب متخصّصة ، في الشأن الذي هو بصدده ، وقد يدفع أموالاً كثيرة ، للحصول على أفكار قيّمة ، تنفعه ، في تنفيذ مشروعه ، دون أن يساير أحداً ؛ فيشتري منه ، أفكاراً ضعيفة ، أو فاسدة .. مجاملة له ، أوخوفاً من عتبه، أو اتقاء لغضبه !
* أفكار عامّة ، تتعلق بالشأن العامّ : وهذه ، أسواقها مفتوحة ، على مصاريعها ، لكل من هبّ ودبّ ! وكل بائع أفكار، صغيراً كان أم كبيراً ، عالماً كان أم جاهلاً .. يرى أفكاره درراً ثمينة ، وقد يراها ، هي الدواء الشافي ، لسائر علل الأمّة ، ويقدّمها، مجّاناً ، لا يريد ، من ورائها ، جزاءً ولا شكورا ، بل يحرص على أن يفرضها ، على الناس ، فرضاً ؛ لأنه شريك : في الرأي ، والقرار، والمصير..! ومن حقّه ، بل من واجبه ، أن يفرض ، على الناس ، مايراه ، هو ، صواباً ! بَيدَ أن ماهو مهمّ ، ومطلوب ، منها ، ما يتعلق بالقرار العامّ ، سواء أكان على مستوى دولة ، أو وزارة .. أم كان على مستوى مؤسّسة ، أوحزب ، أو قبيلة !
والجهة المخوّلة ، بصناعة القرار، هي المخوّلة ، بشراء الأفكار، التي تراها صالحة، لتسديد قراراتها ، ونجاح هذه القرارات ! فإذا كانت هذه الجهة مؤهّلة ، لشراء الأفكار؛ فهذا هو المطلوب ! وإلاّ ضاع القرار، ومن يُصنع له القرار، حتى لو لم يَضع صانعُ القرار!
والأهلية ، هنا ، تكمن في ثلاثة أمور، هي :
- إدراك صانع القرار، أنه بحاجة إلى دعم عقله ، بعقول الآخرين ، وأنه لم يَحز العلم كله ، والفهم كله ، ولم يؤتَ الحكمة وفصل الخطاب .. وأن اكتفاءه بعقله ، مهما كان ألمعياً ، يضيع عليه فرصة الإفادة ، من عقول الآخرين ، التي قد تحوي من الآراء ، مالا يحويه عقله ، وقد تولّد من الأفكار، مالا يولّده عقله !
- أن يكون مؤهّلاً ، لأن يَميز الغثّ من السمين ، والصالح من الفاسد .. من الأفكار والآراء ! وهذا يحتاج ، إلى كثير من الخبرة ، وشيء من الفطنة !
- أن يكون صاحب إرادة قويّة ، يستطيع مجابهة أصحاب الأفكار، غير المناسبة لقراره ، بحكمة وحزم.. ولا يخضع لأحد، من أصحاب الآراء والأفكار، مهما كان قوياً : بشخصه ، أو موقعه ، أو كتلته .. فيضطرّ إلى مسايرته، والالتزام برأيه ، أو تفكيره ، الذي يراه – أيْ : صانع القرار- فاسداً ، أو غير مناسب ، لصناعة قراره ، الذي يتحمّل ، هو، مسؤوليته ، أمام الله ، والناس .. والذي ، لو أخذ به ، وهو يعلم فساده ، ثمّ أخفق .. فسوف يلومه صاحب الرأي الفاسد – نفسه - على إخفاقه ، ناسياً ، أو منكراً ، أنه فرضه عليه فرضاً ! وربّما حرّض ضدّه ، الناس ، لإخفاقه ، وطالبهم بمحاكمته ، أوعزله ! وما أكثر مانرى هذا ، في ميادين العمل العامّ !
وغنيّ عن التذكير، هنا ، أن الخضار الفاسدة ، التي أشرنا إليها ، بداية .. قد تؤذي أسرة ، في ساعة معيّنة ، أمّا الأفكار الفاسدة ، فقد تدمّر أمّة ، أو دولة ، أو حزباً ، أو قبيلة ..! كما أن مشتري الخضار الفاسدة ، لأسرته ، قد يجد منها ، عفواً وصفحاً؛ فيما لو أصابها ضرر! أمّا صانع القرار الفاسد ، الذي يؤذي ، به ، أعداداً كبيرة من الناس .. فيحمل أوزاراً كثيرة ، وثقيلة ، يحاسَب عليها ، في الدنيا والآخرة ! وقد لايجد من يصفح عنه ، من المتضرّرين بقراره ، حتى لو كان ، هو، لديه القدرة ، على التماس الأعذار، لنفسه !
وغنيّ عن التذكير، أيضاً، أن الحصول على الأفكار الجيّدة ، لم يعد، دونه ، اليوم، عقبات ؛ بعد أن انتشرت وسائل التواصل الحديثة ! ويمكن ، لصانع القرار، أن يحصل على أروع الأفكار، التي يحتاجها ، في سائر أنواع القرارات ؛ وذلك ، من المكاتب المتخصّصة ، المنبثة ، في أنحاء العالم .. ومن الأفراد المتخصّصين ، في سائر المعارف والعلوم ! لذا ؛ ليس ثمّة عذر، أوحجّة ، لمن يُخفق ، في صناعة قراراته ؛ بأنه لم يجد الجهة المؤهّلة ، التي تساعده ، في إنضاج قراره ، أو رأيه الذي يبني عليه القرار!