أيام في تونس

أ.د مولود عويمر

هذه ليست المرة الأولى التي أزور فيها تونس، فلقد سبق لي وأن زرتها في يناير 2004، وأنا عائد من رحلة علمية بالمملكة العربية السعودية. ورغم قصر المدة التي قضيتها في تونس آنذاك، فقد اغتنمت الفرصة لزيارة جامع الزيتونة، والكلية الزيتونية والجمعية الخلدونية الشهيرة التي ألقى فيها محاضرات كل من الشيخ عبد الحميد بن باديس، والشيخ العربي التبسي، والأستاذ مالك بن نبي.

وشاءت الأقدار أن أعود إلى تونس في نوفمبر 2014 للمشاركة في ندوة دولية حول " العلاقات التونسية الجزائرية بين ثوابت الماضي ورهانات المستقبل" بدعوة من جمعية البحوث والدراسات لاتحاد المغرب العربي التي يترأسها المؤرخ الدكتور حبيب حسن اللولب.

وإليك الآن أيها القارئ انطباعاتي وخواطري عن هذه الرحلة ومشاهدها المتعددة.

الدكتور اللولب يستقبلنا في مطار قرطاج

وصل الوفد الجزائري إلى مطار قرطاج بتونس عشية الثلاثاء 11 نوفمبر 2014 بعد رحلة جوية دامت ساعة واحدة. وكان الوفد يتكوّن من: الدكتور عيسى يحه (جامعة الجزائر 3)، والدكتور عمار جفال (جامعة الجزائر2)، والدكتور محمد صالح رزاق لبزة (جامعة الجزائر 3)، والدكتور محمد حميدوش (جامعة خميس مليانة)، والدكتور مولود عويمر (جامعة الجزائر2).

وقد سبقنا إلى تونس كل من الدكتور عبد المجيد قدي (جامعة الجزائر 3)، والدكتور محمد المكحلي (جامعة سيدي بلعباس)، والدكتور لعوج زواوي (جامعة سيدي بلعباس).

استقبلنا في المطار الدكتور حبيب حسن اللولب، وهو من أنشط المثقفين التونسيين. نظم العديد من الندوات الفكرية استضاف فيها نخبة من الباحثين القادمين من الجزائر وليبيا والمغرب وموريتانيا. وهو متعلق كثيرا بالجزائر، وليس أدل على ذلك من انصرافه عدة سنوات لإنجاز رسالة الماجستير ثم أطروحة الدكتوراه حول تاريخ العلاقات التونسية الجزائرية التي ناقشها بامتياز في جامعة الجزائر.

مع الدكتور علي الزيدي

لما دخلت للمرة الأولى إلى فندق الديبلوماسي الذي نزلنا فيه، عرّفني الدكتور حبيب بصديقه الدكتور علي الزيدي، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة صفاقس.

والدكتور علي الزيدي ليس غريبا على كل من يهتم بالتاريخ الثقافي التونسي، فله كتب عديدة في هذا المجال، ونشر حوله عدة بحوث في "المجلة التاريخية المغاربية" التي يصدرها المؤرخ المعروف الدكتور عبد الجليل التميمي. والحق أني سعدت كثيرا بلقاء الدكتور الزيدي الذي كنت أعرفه من خلال كتاباته، وكان آخر ما قرأت له، بحثه حول "أثر حركة الإصلاح برافديها المغربي والمشرقي في تكوين الشيخ محمد الفاضل بن عاشور"، المنشور في كتاب جماعي (2010).

تناولنا العشاء في الفندق ثم خرجنا بعد ذلك للتجول في مدينة تونس، فمررنا عبر شوارعها الرئيسة التي تحمل أسماء لامعة في الحركة الوطنية كالحبيب بورقيبة والحبيب ثامر، وأسماء رمزية كالحرية وفلسطين. وكان بلا شك شارع بورقيبة أجمل الشوارع في الليل أو النهار، بمساحته الشاسعة طولا وعرضا؛ تقع على أرصفته المقاهي والمطاعم والفنادق والمحلات الراقية. لكن أبرز ما لفت انتباهي هي دار المسرح، والكاتدرائية، وتمثال عبد الرحمان بن خلدون وهو يمسك كتابه الخالد: "المقدمة".

وعرّفني الدكتور علي الزيدي بصديقه الدكتور محمد الشعبوني، الذي كنت أقرأ اسمه في عدة كتب ومجلات التي اقتبست شذرات من أطروحته المخطوطة حول: "موقف البلدان المغاربية من مسألة الخلافة 1914-1926". ولقد سألته في هذا اللقاء هل نشرها بعد كل هذه المدة (منذ 1992)، فقال إنه بصدد التفكير في ذلك. ولقد كانت الجلسة معه مثمرة ناقشنا خلالها قضايا لها صلة بالحركات الإصلاحية المعاصرة.

أهديت إلى الدكتور الزيدي نسخة ورقية من كتبي ونسخة إلكترونية لجريدة مصرية اهتمت كثيرا بالكفاح الوطني في المغرب العربي، كما تكرم هو بإهداء إلي نسخة من كتابه " دراسات في تاريخ التعليم بالبلاد التونسية في الفترة المعاصرة"، الصادر عن منشورات منتدى الفارابي للدراسات والبدائل بصفاقص في عام 2014، وهو يشمل 277 صفحة، مقسم إلى تسعة فصول، تتبع فيها الكاتب المراحل المتعددة التي عرفها التعليم التونسي، ودرس بشكل خاص تطوّر التعليم الزيتوني بين 1910 و1969، وعالج دور الزيتونيين علماء وطلبة في الحركة الوطنية التونسية. ولا شك أنني سأستفيد منه في بحوثي المتصلة بتاريخ العلاقات الفكرية بين النخب الإصلاحية في المغرب العربي.

محاضرات ومناقشات

حرصت جمعية البحوث والدراسات لاتحاد المغرب العربي التي يترأسها المؤرخ الدكتور حبيب حسن اللولب إلاّ أن تشاركنا أفراحنا بالاحتفال بالذكرى الستين للثورة التحريرية، كما شاركتنا في الماضي النخبة التونسية أحزاننا أيام الاحتلال الفرنسي، وسنوات الكفاح الوطني المسلح ضد الاستعمار، وذلك بتنظيم ملتقى دولي في المركز التونسي للأرشيف يومي 12و13نوفمبر2014، حول "العلاقات التونسيّة - الجزائريّة: بين ثوابت الماضي ورهانات المستقبل".

وحضر أشغاله العديد من المثقفين والسياسيين أمثال السيد الهادي بكوشة، وزير الأول في عهد الحبيب بورقيبة، السيد أحمد المستيري، وزير الخارجية في نفس الحقبة، المفكر الدكتور المنصف وناس، وممثل عن الجامعة العربية، وآخر عن سفارة الجزائر في تونس.

وشارك في الأشغال العلمية مجموعة من الباحثين التونسيين والجزائريين القادمين من جامعات الجزائر وسيدي بعباس وخميس مليانة. وترأس الجلسات باقتدار أساتذة تونسيون معروفون في عالم الفكر ومجال البحث العلمي، أذكر منهم: الدكتور عبد السلام بن حميدة (جامعة تونس)، الدكتور رضا الشكندالي (المدير العام لمركز البحوث والدراسات الاقتصادية والاجتماعية)، والدكتور محمد الطاهر المنصوري (جامعة تونس).

تحدث الدكتور عبد الكريم الماجري (جامعة منوبة) عن دور العوامل التاريخية في دعم علاقات التعاون بين الشعوب والدول، محللا الإشكاليات ومبرزا المفارقات. وبيّن الدكتور المنصف وناس (جامعة تونس) سبل الارتقاء بالعلاقات التونسية الجزائرية إلى مرحلة الأنموذج. وفي السياق نفسه أوضح الدكتور جمال الدين الغربي (وزير سابق) سبل تطوير العلاقات التونسية في المجال الاقتصادي خاصة على الشريط الحدودي بين البلدين.

كما عالج الدكتور محمد الهدار (جامعة المنار) موضوع الشراكة التونسية الجزائرية. ورسم الدكتور داريم البسام (كبير مستشاري الأمم المتحدة) صورة للعلاقات التونسية الجزائرية في ضوء التغيرات الإقليمية والدولية. أما الدكتور عادل بن يوسف (جامعة سوسة) فقد تحدث عن العلاقات الدبلوماسية التونسية الجزائرية بعد الربيع العربي (2011-2014)، مبينا تراوحها بين الفتور والانفراج.

أما الوفد الجزائري، فقد قدم بدوره سلسلة من المحاضرات. تحدث الدكتور عمار جفال (جامعة الجزائر2) عن العلاقات الجزائرية التونسية وغياب الرؤية الإستراتيجية. وتكلم الدكتور عيسى يحه (جامعة الجزائر 3) عن تأطير النمو في منطقة الجزائر- تونس. وتكلم الدكتور محمد المكحلي (جامعة سيدي بلعباس) عن العلاقات الاقتصادية التونسية الجزائرية وأفاق الاندماج المغاربي. وتطرق الدكتور عبد المجيد قدي (جامعة الجزائر 3) إلى التعاون الاقتصادي التونسي الجزائري في ظل تحديات العولمة.

الدكتور محمد حميدوش (جامعة خميس مليانة) قدم نظرة استشرافية لمستقبل العلاقات الجزائرية التونسية وسبل بناء تكتل اقتصادي في شمال إفريقيا. وتكلم الدكتور لعوج زواوي (جامعة سيدي بلعباس) عن الطرق الناجعة لبناء شراكة اقتصادية حقيقية بين الجزائر وتونس. وعالج الدكتور محمد صالح رزاق لبزة (جامعة الجزائر 3) موضوع الجزائر وتونس بين التكتل المغاربي والعولمة.

وفي مجال التاريخ الراهن، تحدث الدكتور مولود عويمر (جامعة الجزائر2) عن التواصل الفكري بين النخبة الجزائرية والتونسية (1962-2012). وكشف المحاضر صفحات مشرقة من التواصل الفكري بين النخبة الجزائرية والتونسية خلال 50 سنة من التعاون المثمر من أجل ترقية الثقافة في البلدين المجاورين، سائرين على خطى رواد النهضة في المغرب العربي الذين جسدوا طوال فترة الاحتلال الاستعماري المعاني السامية للتضامن الحضاري والتبادل العلمي لتحقيق الوحدة الثقافية بين القطرين، وتوثيق العلاقة بين الشعبين.

وحسب المحاضر، فإن الصلات الفكرية بين الجزائر وتونس في الفترة الممتدة بين 1962 و2012 تجلت في أشكال متعددة، تبرز بوضوح الحضور الجزائري والتونسي في المشهد الثقافي من خلال مساهمات في الندوات الفكرية والمؤتمرات العلمية والتدريس في الجامعات، وتبادل الزيارات من أجل الاطلاع على التجارب الناجحة في مجال البحث العلمي والإنتاج الفكري، وتبادل المطبوعات، والمشاركة في الكتابة الصحفية في الجرائد والمجلات المختلفة.

ولقد تخللت الجلسات العلمية نقاشات مثمرة برهنت على حرص الجميع على رسم خريطة الطريق لبناء شراكة حقيقية بين الجزائر وتونس، وتأكيدهم على ضرورة التعاون بين النخب التونسية والجزائرية من أجل تحقيق تنمية شاملة في مختلف المجالات في البلديين المجاورين والشعبين الشقيقين، ودعوة أهل القرار إلى الانخراط كلية في هذا المسار المصيري.

ذكريات عن الثورة الجزائرية

تقدم نحوي شيخ كبير في قاعة المحاضرات، وقال لي: هل أنت جزائري؟ فقلت نعم. حينئذ عرّفني بنفسه: أنا لعروسي بن إبراهيم، كنت معتمد الحكومة التونسية على مخيمات اللاجئين الجزائريين في الحدود التونسية الجزائرية خلال ثورة التحرير. ثم سلّم إليّ صورة قديمة فقال لي: هل تعرف هؤلاء؟ فقلت: نعم. هذا الحبيب بورقيبة يرفع علم الجزائر، وعلى يمينه محمود الشريف وزير التموين والتسليح في الحكومة الجزائرية المؤقتة، وعلى يساره كريم بلقاسم، وزير الشؤون الخارجية. وقال السيد العروسي معلّقا على تلك الصورة، أن بورقيبة قال في هذه اللحظة التاريخية مخاطبا العضوين في قيادة الثورة الجزائرية: "إن هذا العلم سيرفع مرفوعا عاليا فوق أرض الجزائر الحرة في الزمن القريب بفضل جهاد أبنائها الأبطال."

كان هذا الرجل البشوش صاحب ذاكرة قوية، أنصت إليه وهو يحدثني عن لقاءاته الكثيرة مع قادة الثورة الجزائرية بحكم منصبه. وروى لي قصصا عديدة حولهم، أذكر منها على سبيل المثال القصة التالية: دخل مرة على مكتب هواري بومدين في فيلا على الحدود التونسية الجزائرية، فوجد فيه صورة كبيرة لجمال عبد الناصر معلقة على الجدار. فشعر السيد العروسي كأنه خرج من تونس ودخل إلى مصر. حينئذ وضع يديه في جيبه. فانتبه بومدين فقال له: ماذا تخرج من جيبك؟ فرد عليه: إني أبحث عن جواز سفري. فضحك بومدين من هذه اللفتة الذكية!

كنت منهمكا معه في الحديث حتى ابتعد عنا الأساتذة الذين ذهبوا إلى فندق الأندلس لتناول الغذاء. فرافقته في الطريق، وكان خير دليل لي، فتعرفت بفضله على معالم كثيرة كدار بلدية تونس، وثانوية الصادقية الشهيرة، وضريح الشهيد فرحات حشاد زعيم الحركة العمالية في تونس، وجامع الزيتونة، والجمعية الخلدونية، ودار شيخ الإسلام عبد العزيز جعيط وغيرها من المعالم التراثية التونسية، التي لم يكن بوسعي أن أتعرف عليها لولا هذا الرفيق العزيز الفطن.

صلاة الظهر في جامع الزيتونة

وصلنا إلى مطعم الأندلس الواقع في الحي العتيق، وهو مزيج من الطراز الأندلسي والعثماني. انضممنا إلى مائدة تضم أساتذة جزائريين وتونسيين، واستمتعنا حقا بحديث الدكتور منصف وناس الهادئ وتحليلاته الإستراتيجية التي تدل على متابعاته الدقيقة والمستمرة لما يحدث حاليا في العالم العربي.

أكلنا ما طاب من المأكولات التونسية والفواكه اللذيذة، ثم خرجنا من المطعم الجميل مع الأساتذة يحا وقدي وحمادوش للتسوق في المحلات التي يعج بها هذا الحي القديم. غير أننا فضلنا الذهاب قبل ذلك إلى جامع الزيتونة الموجود بجانبنا لأداء صلاة الظهر، والتجول في ساحة المسجد، والتقاء صور تذكارية مع طيور الحمام المنتشرة فيها.

أديت صلاة الظهر ثم استحضرت تاريخ هذا المسجد العريق الذي علّم فيه عمالقة الفكر من ابن خلدون إلى محمد الفاضل بن عاشور، ودرس فيه ألاف من الطلبة الجزائريين أمثال ابن باديس ومبارك الميلي والعربي التبسي وعبد الرحمان شيبان وغيرهم. وكنت أتمثلهم أمامي وهم ينصتون إلى دروس الشيخ محمد الطاهر بن عاشور والشيخ محمد النخلي والشيخ عبد العزيز جعيط وغيرهم. كما كنت أنظر إلى المحراب، وأتخيّل الشيخ محمد الصالح النيفر جالسا فيه وهو يصدع بالحق، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

خرجنا من المسجد مرتاحين كثيرا، وقصدنا المحلات لشراء الهدايا للأسرة، كما اشتريت لنفسي قبعة تونسية حمراء التي كثيرا ما يلبسها الزعماء والأدباء والشعراء التونسيون أمثال فرحات حشاد وأبو القاسم الشابي. واتجهنا بعد ذلك نحو باب البحر عائدين إلى الفندق على الأقدام رغم بعد المسافة نظرا لإضراب سائقي الحافلات والقطارات. ولم يتوقف عندنا سائق التاكسي إلا بعد أن اقتربنا من الوصول إلى مقر إقامتنا، وبعد أن شعر الدكتور عيسى يحه بالإرهاق. واغتنم السائق هذا الإضراب لرفع ثمن الخدمة مرتين ونصف. ركبنا معه مرغمين، غير راضين عن هذا السلوك الجشع. وازداد استغرابنا من سلوكه بعد دقائق من ركوبنا في السيارة ونحن نسمعه ينشد مديحا دينيا. إن لله في خلقه شؤون!

مطالعات في المكتبة الوطنية

زرت المكتبة الوطنية التي تقع خلف مركز الأرشيف الذي احتضن فعاليات الملتقى الدولي. اتجهت مباشرة إلى مصلحة الكتب الجديدة لأهدي للمكتبة مجموعة من كتبي لكي يستفيد منها روادها من الباحثين والطلبة والمهتمين بالتاريخ والفكر. ثم دخلت إلى قاعة الدوريات التي كان يسودها هدوء المقابر، فالكل منشغلون بالمطالعة أو الكتابة. ولم أجد حارسا عند الباب يسألني ماذا أريد؟ أو أين بطاقة القارئ؟ وغيرها من الأسئلة المحرجة أحيانا!

تصفحت بسرعة بعض المجلات المرتبة في الرفوف، وفجأة وجدت مجلة "الهداية الإسلامية" التي أسسها الشيخ محمد الخضر حسين في القاهرة في عام 1928. وهي مطبوعة في 24 مجلدا بفضل جهود ابن أخيه البار الأستاذ علي رضا الحسيني. ولقد فرحت كثيرا بلقائي الثاني مع هذه المجلة بعد مدة تجاوزت 7 سنوات. فكان لقاؤنا الأول في زاوية طولقة بمنطقة الزيبان، حيث عثرت على أعداد قليلة منها. وهكذا شاءت الأقدار أن نلتقي بعد كل هذه المدة في تونس، وهي تستقبلني بكامل أعدادها.

كان همي يرتكز على أمرين: البحث عن كتابات الجزائريين في هذه المجلة، ومقالات وأخبار حول الجزائر. أما بالنسبة للكُتاب الجزائريين، فلم أجد إلا مقالين ورسالة: الأول للشيخ إبراهيم أطفيش حول "القضية البربرية"، نشرتها المجلة في حلقتين. وهي في الأصل محاضرة قدمها الشيخ أطفيش في دار جمعية الهداية الإسلامية. أما المقال الثاني، فإنه لعالم النفس الجزائري الدكتور أبو مدين الشافعي، ناقش فيه مسألة تحضير الأرواح بين الحقيقة والوهم. أما الرسالة فهي للشيخ أبي يعلى الزواوي حول تصحيحات لغوية.

ولابد أن أشير هنا إلى أن غالبية كُتاب المجلة هم مصريون، وتونسيون أذكر منهم: محمد الطاهر بن عاشور، عبد العزيز جعيط، محمد البشير النيفر، محي الدين القليبي، ...الخ.

أما المقالات حول الجزائر، فهي قليلة أيضا. كتب محمد الخضر حسين عن لهجات الجزائر، وعبّر فؤاد أباظة باشا، مدير عام الجمعية الزراعية المصرية عن انطباعاته حول زيارته للجزائر في عام 1358 هـ. ونشرت المجلة أخبارا عن الجزائر، فكتبت عن وفاة الشيخ محمد المدني بن أحمد بن عمر، المدرس بزاوية طولقة. وقد سبق له أن زار القاهرة في عام 1345 هـ، والتقى بالشيخ الخضر وعدد من رجال الفكر والسياسة المصريين أمثال: أحمد رافع وأحمد تيمور.

كما نشرت المجلة خبر وفاة الشيخ عبد الحليم بن سماية الذي تعرف عليه الشيخ الخضر خلال رحلته إلى الجزائر في عام1904، وأعجب بشخصيته وعلمه، فقال في شأنه: "التقينا بالشيخ عبد الحليم بن سماية، فغمرنا بنفحات خلقه الناضر، واختلى ألبابنا بفصاحة لسانه الساحر."

ومن باب التعريف بالإنتاج الجزائري، نشرت المجلة أخبار عن صدور عدة كتب للعلماء الجزائريين، أذكر هنا: كتاب " الرسم في تعليم الخط" للشيخ محمد بن يوسف أطفيش، و"الديوان" لأبي اليقظان، وكتاب "الإسلام في حاجة إلى دعاية وتبشير" للشيخ محمد السعيد الزاهري. وقد جاء في تعريفه: "الكتاب هو مجموعة مقالات محررة بقلم حضرة الأستاذ الكاتب الشيخ محمد السعيد الزاهري الجزائري في الدعوة إلى الخير وما يجب أن يكون عليه الداعي من بصيرة وحكمة. طبعت بالمطبعة السلفية. فنشكر حضرتي المحرر والناشر على هذا العمل النافع."

وتطرقت المجلة مرة واحدة إلى مسألة سياسية، وهي فشل سياسة التجنيس في الجزائر، رغم كل جهود السلطة الاستعمارية في هذا المجال.

زيارة مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية

في يوم الجمعة صباحا غادر الوفد الجزائري الفندق مع الدكتور الحبيب اللولب. ومشينا على الأقدام متجهين إلى مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية الذي انتقل منذ سنوات قليلة إلى بناية جديدة بنهج المؤازرة بحي الخضراء. وفي منتصف الطريق، شعر بعض الأساتذة بالتعب، فركبنا لأول مرة في حافلة كهربائية، فشعرنا بالراحة رغم ازدحام المسافرين واكتظاظ العربات. ونزلنا أخيرا من الحافلة الخضراء في محطة الخضراء متوجهين إلى حي الخضراء الذي يقع فيه هذا المركز!

وجدنا البناية نظيفة وواسعة تتوفر على كل المرافق الأساسية. وكان المدير الدكتور رضا الشكندالي ينتظرنا في مكتبه في الطابق الأول، ومعه الدكتور منصف وناس، والدكتور عبد الكريم الماجري أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة منوبة. وكان اللقاء مثمرا تحدث خلاله الأساتذة عن البحث العلمي في مجال العلوم الإنسانية سواء في الجامعات الجزائرية أو التونسية، وألح الجميع على ضرورة بناء جسور التواصل بين الباحثين الجزائريين والتونسيين، والتعاون في المستقبل في إطار مشاريع علمية مشتركة.

لقد تأسس هذا المركز في بداية السبعينات وهو تابع مباشرة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وله نشاطات دائمة في مجالات تخصصه، ويصدر مجلة أكاديمية نصف سنوية، وهي المجلة التونسية للعلوم الاجتماعية. كما يصدر أيضا كراسات التي تعالج مواضيع مختلفة، أذكر هنا بعض عناوينها: تنمية البحث وإعادة التفكير في التنمية، التربية والمواطنة في العالم العربي، التنوع والتماثل، ابن خلدون ناظرا ومنظورا إليه، رواد الإصلاح في العالم الإسلامي...الخ.

في ختام الزيارة، ودعنا المدير ومساعديه الذين أهدوا إلينا نسخة من العدد الأخير (141) من المجلة التونسية للعلوم الاجتماعية، وهي تحتوي على مجموعة دراسات باللغتين العربية والفرنسية في قضايا تاريخية واجتماعية بأقلام تونسية وأجنبية. وأذكر هنا بالخصوص الدراسات التي أثارت اهتمامي: العلاقات بين الاتحاد العام للعمال الجزائريين والجامعة العالمية للنقابات الحرة (1956-1963) للباحث في المركز الدكتور سالم بويحي، العلاقات الثقافية بين الشرق والغرب في مصر:جدلية الانبهار والحوار من الحملة الفرنسية إلى البعثة السان-سيمونية للأستاذ مجدي فارح من جامعة تونس، المتقبّل والخطاب الأركوني في مقاربة النص القرآني للأستاذ عمر الساسي من المعهد العالي للعلوم الإنسانية بجندوبة.

وبعد هذه الزيارة المفيدة، عدنا إلى مطار قرطاج ونحن نوّدع الدكتور الحبيب اللولب والدكتور عبد الكريم الماجري، وكل أملنا أن نصل بخير إلى الجزائر، ونبقى على التواصل بيننا نحن الأساتذة الجزائريين الذين تعارفوا بهذه المناسبة العلمية، وكذلك ننمّي علاقاتنا العلمية مع كل الأساتذة التونسيين الذين جمعنا اللقاء بهم خلال هذه الرحلة.

وأخيراً أقدم تحية تقدير إلى جمعية البحوث والدراسات لاتحاد المغرب العربي بشكل عام، والمؤرخ الدكتور حبيب حسن اللولب، على حسن التنظيم، وكرم الضيافة، والعمل المستمر من أجل ترقية البحث العلمي في المغرب العربي في مجال العلوم الاجتماعية.