بل أبهرني مركز جمعة الماجد

محمد فاروق الإمام

لم تبهرني الأبراج التي تناطح السماء

محمد فاروق الإمام

[email protected]

لابد لزائر دولة الإمارات العربية المتحدة أن تبهره المدنية والرقي العمراني الفريد من حيث الشكل والمضمون، فالأبراج التي تناطح السماء، والخضرة التي تغطي مساحة واسعة من رمال الصحراء، والشوارع والطرق الفسيحة المزينة بالورود والرياحين والأشجار الباسقة، والمتنزهات والحدائق الوارفة الظلال التي تعج بالزائرين ترويحاً لأنفسهم، وأسواق التسوق التي تأخذ بالألباب وتترك من يدخلها خالي الوفاض، وجنسيات ولغات الوافدين من العاملين والسياح من كل بقاع الأرض.. كل هذه المعالم _ على عظمتها وشموخها -  لم تبهرني في زيارتي الأخيرة لدولة الإمارات العربية المتحدة أو تأخذ بلبي كما فعلت بمعظم من يأمون مدن دولة الإمارات العربية المتحدة ويشدون الرحال إليها، بعد أن وَلَجْتُ عالم العلم والمعرفة والثقافة المتمثلة بمركز الشيخ جمعة الماجد للثقافة والتراث، وقد وجدت نفسي أقف باحترام وتقدير أمام هذا الشيخ الجليل الذي لم ينجر كغيره إلى بهارج الدنيا وزينتها _ على غناه – وقد آثر التجارة بالعلم والثقافة والمعرفة محتسباً الأجر والربح عند الله.

دخلت هذا الصرح العلمي الكبير الذي قل نظيره في الدول المتقدمة، حيث وقعت عيناي على مكتبة فسيحة مترامية الأطراف تعج بالباحثين والدارسين والمطالعين لينهلوا من كتبها المتعددة الفنون والعلوم والثقافة وكل ما يخطر ببال عاشق للعلم أو باحث عن الثقافة والمعرفة، وكنت على موعد سابق، حيث استقبلنا رئيس قسم العلاقات العامة والإعلام في الدار الدكتور أنس صبري بوجهه الصبوح وابتسامته التي ارتسمت بدعة ولطف على فمه، وكلمات الترحيب التي تتناغم مع مستواه العلمي والأدبي الرفيع. وبعد تقديم الضيافة وتبادل المعرفة راح بنا في أروقة ومباني الدار التي تضم آلاف الكتب والدوريات والمخطوطات. وتزين جدرانها مئات صور المخطوطات وانشطة الدار.

ومن باب الوفاء لابد لنا قبل التعريف بالدار أن نعرف بالشيخ جمعة الماجد مؤسس هذه الدار وراعيها.

ففي رمال جزيرة العرب، وعلى ضفاف الخليج، في منطقة هي الآن على بعد أقل من بضعة كيلو مترات من أطول برج في العالم، تقع منطقة (الشندغة) التراثية في وسط مدينة دبي القديمة، لتكون وجهاً آخر لدبي، يربطها بذلك الزمن القريب، والماضي العريق، عندما كانت (الشندغة) هي واجهة دبي، وسوقها، وميناءها، ومركزها التجاري العتيد، ومقر حكومتها. وحيث امتزجت رائحة التراب بنسمات البحر الرطبة ولد (الشيخ جمعة الماجد) في عام 1930م لأسرة امتهنت الغوص بحثاً عن اللؤلؤ، وكان كثيراً ما يرافق جمعة الماجد والده في هذه الرحلات الشاقة والخطرة، وظل على هذه الحال أكثر من أربع سنوات إلى ان انتظم في الكتّاب، ثم بدأ رحلته الدراسية في المدرسة الأهلية عام 1948م.

وعندما اشتد عود الشيخ جمعة الماجد ولج طريق التجارة ونجح فيها أيما نجاح، ثم تبنى العمل الخيري وأسس مع لفيف من أصدقائه لجنة خيرية قامت بجمع التبرعات وشيدت مدرستين ثانويتين، إحداهما للذكور في بر دبي، والأخرى للإناث في ديرة، ثم راح يسعى لتأسيس المكتبة الوطنية في دبي.

كان جمعة الماجد خلال أسفاره ورحلاته الكثيرة إلى مختلف دول العالم يقتني المفيد من الكتب والدوريات التي لم تكن متوفرة في دبي آنذاك، وكان حريصاً على أن يجعل للمال قيمة إنسانية وثقافية!!

أحب جمعة الماجد الكتاب منذ الصغر، فالكتاب عنده كنز ثمين يضم تراث الإنسانية كلها دون تفريق بين لغة أو دين أو اعتقاد، وتجلى ذلك في إنقاذه كتباً تابعة للكنائس، فكثيراً ما كان يردد (إن الكتاب ليس قنبلة فيجب أن لا نخاف منه)، ويقول (أعتبر نفسي مسؤولاً عن إنقاذ أي كتاب معرض للتلف في العالم، بأي لغة كان، وأياً كان موضوعه أو كاتبه، لأن الكتاب يمثل إرثاً حضارياً للإنسانية جمعاء، والحفاظ عليه، هو حفاظ على الإرث العلمي والثقافي والإنساني).

وقد أثمرت محبة جمعة الماجد للكتاب وحرصه على التعليم إنشاء عدد من المؤسسات العلمية، والثقافية، والخيرية داخل دولة الإمارات وخارجها، منها:

1-  إنشاء (المدارس الأهلية الخيرية) الصباحية والمسائية يدرس فيها أبناء الوافدين وأبناء الأسر الفقيرة، وتقديم المساعدات المالية للدارسين الذين يواجهون ظروفاً اقتصادية صعبة، بالإضافة إلى تقديم الحقائب المدرسية، والقرطاسية، والمواد التموينية، وملابس العيد. وقد تكاثر عدد التلاميذ في هذه المدارس ليصل اليوم إلى (10000) طالب وطالبة.

2-  إنشاء (كلية الدراسات العربية والإسلامية) وشهادتها معادلة من جامعة الأزهر الشريف، حيث تقدم فيها خدمة الدراسة المجانية، وتؤمن وسائل النقل من السكن إلى الكلية، وتمنح المساعدات المالية للطلبة المحتاجين. وقد تخرج في هذه الكلية حتى نهاية عام 2009م (6234) طالباً، منهم (4707) طالبة، و(1527) طالباً.

كان للكتاب في نفس جمعة الماجد مكانة كبيرة لم تزدها الأيام إلا قوة ورسوخاً، وكان يقتني كل ما استطاع الوصول إليه من نوادر الكتب والمخطوطات والوثائق، ويشتري مكتبات العلماء بكل ما تضم بعد وفاتهم، مهما تجشم من عناء وبذل من مال.

ثم صار جمع الكتب وترتيبها في عام 1988م يأخذ طابعاً مهنياً وعلمياً شيئاً فشيئاً، إلى أن جاء يوم الثاني من نيسان عام 1991م الذي كان فيه تأسيس (مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث) رسمياً، وبدعم كامل من جمعة الماجد، ليكون هيئة خيرية علمية ذات نفع عام تعنى بالثقافة والتراث.

وفي عام 1993م بدأت مرحلة تقديم الخدمات المكتبية للباحثين وطلاب الجامعات، وتعددت أقسام المركز وأنشطته، فصار جامعاً لزمام الثقافة من أبوابها، ففيه من المخطوطات ما يزيد على (250) ألف مخطوطة، ومن الكتب ما يزيد على (300) ألف عنوان، ومن الدوريات ما يزيد على (6000) عنوان موزعة على أكثر من مليون عدد، والآلاف من الرسائل الجامعية.

وتوسع الأمر في مجال ترميم المخطوطات حتى أضحى المركز مرجعاً معتمداً لإقامة الدورات المتخصصة في فن الترميم عند الجهات الدولية مثل (اليونسكو) وغيرها. وقام المركز بتوزيع أجهزة الماجد الخاصة بعمليات الترميم المتنوعة والتي أهديت إلى أكثر من (40) جهة ثقافية تقع في خمس وعشرين دولة في العالم.

وأما المؤتمرات التي شارك فيها المركز والندوات والمحاضرات والدورات التي أقامها، فقد بلغت المئات، والكثير منها مصور وموثق يمكن لباحث الرجوع إليه، والانتفاع به.

ومنذ العام 1990م أثمرت إصدارات المركز حتى بلغت 87 إصداراً حتى الآن، ووصلت مجلة (آفاق الثقافة والتراث) التي تصدرها الدار إلى العدد (66)، و(نشرة أخبار المركز) إلى العدد (40).

هذا غيض من فيض مما أعطى الشيخ جمعة الماجد ومركزه للثقافة والتراث، ولوتيسر لعالمنا العربي أمثال هذا الشيخ الجليل لكنا نحن غير ما عليه الآن من تخلف نلهث وراء الآخرين ليتكرموا علينا بفضلات علومهم، لقاء تقديم غالي الثمن من كرامتنا وثرواتنا، ولكنّا في مقدمة دول العالم حضارة ورقياً وتقدماً!!